شبكة قدس الإخبارية

"عيد سعيد" في سجن "عوفر"

أحمد البيتاوي

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، عايشت الأجواء التي كانت تسبق عيد الفطر وما بعده، كنا نحاول خلق أجواء خاصة بهذه المناسبة التي من المفترض أن تكون سعيدة، وعمل طقوس مختلفة تميزه عن روتين بقية الأيام القاتل، فبالرغم من قلة الإمكانيات المتاحة والقيود التي تفرضها إدارة السجون، إلا أننا كان نصر على انتزاع الفرحة وسرقة البسمة رغم السجان وتصرفاته المنغصة (الفرحة كانت ناقصة غير طبيعية بكل تأكيد).

كنا نستبق العيد بيومين أو ثلاثة بتجهيز الحلويات، ويتكفل المطبخ المركزي عادة بإعداد المعمول والكلاج والهريسة والبقلاوة وغيرها من الأصناف، في حين كانت تقوم كل غرفة بعمل أصناف خاصة بها إن أحببت الاستزادة وكان رصيدها المالي في الكانتينا جيداً.

ويمكنك بسهولة أن تشم الروائح الطيبة الزكية المنبعثة من القسم، ونظراً لعدم وجود أفران الغاز، كان الطباخون الأسرى يضطرون لاستخدام "البلاطة" بعد قلبها وتعليقها من طرف عصا "القشاطة" وتثبيتها بنافذة الغرفة، وتدليتها على "الصينية" وتقريبها من الجهة المراد تحميرها.. كان الأسرى عموماً يعتقدون أن كل شخص من نابلس يتقن عمل الحلويات ويستغربون حال ثبت لهم العكس، ولطالما كنت أسمع عبارة "من نابلس وما بتعرف تعمل حلويات.. غريب ! !".

كنا ننشغل كما هو الحال خارج السجن بتنظيف الغرف والنوافذ والحمامات وترتيب الأبراش وساحة الفورا، كان الماء يخرج من أسفل باب كل غرفة كأنه نهر جاري، التنظيف هذا كان مصحوبا بصيحات "المرداونية" الداعية للاستعجال وإنهاء المهمة بأقصر وقت ممكن، في حين كانت تشهد المحلقة "صالون القسم" اكتظاظاً وازدحاماً وحجزا للدور وتجاوزاً له أحيانا.

فيما يقوم الأسرى بتجهيز ملابسهم وتفقدها، ولا عجب أن ترى عند أحدنا المتقن للخياطة عدة "بلاطين" و"بلايز" بحاجة لتقصير أو تخصير أو رقع، وفي حال علم الأسرى بوجود من يتقن فنون الكوي سارعوا بإرسال ملابسهم إليه، كان تبادل الملابس بيننا أمراَ اعتيادياً ومشهداً مألوفاً، كان المعتقلون يستقرضون من بعضهم، ويجود القدامى منهم ويقدمون الفائض عن جاتهم لزملائهم الجدد القادمين لتوهم من التحقيق.

في صبيحة يوم العيد كنا نظل مستيقظين من بعد صلاة الفجر، وما إن تفتح الإدارة أبواب الغرف، حتى يهرع الأسرى ويهرولون كأنهم جراد منتشر إلى "الدشات" طمعا بحمام دافئ سريع، ومن لم يحالفه الحظ ويفشل في السباق كان يطلب من غيره "حجز الدور"، ومن لم ينجح في هذه أو تلك كان يضطر للاستحمام داخل الغرفة، الحمام في الغرفة ليس بالأمر السهل وهو بمثابة "شر لابد منه"، فهو يحتاج لتسخين الماء من "القمقم" عدة مرات وسكبها بالسطل، ونظراً لصغر الحمام تكون الحركة محدودة، عدا عن خطر التزحلق بسبب الدرجة الداخلية والأرضية "الملسة"، وكثيراً ما كان يقع الأسرى خاصة الجدد ويصابون بكدمات وجروح بسيطة.

بعدها تبدأ مرحلة التمشيط والتعطر ووضع الطيب، وهذا الصنف الأخير لا يكون إلا بحوزة الأسرى القدامى، والعطر هذا له حكاية، فهو في الغالب يكون مهرباً من خارج السجن خلال زيارة الأهل بعد نقعه في "جراب" جديد حتى يشرب العطر كله بشكل كامل، ومن ثم يقوم الأسرى بوضعه داخل زجاجة فارغة ويضيفون عليه معقم الجروح الشفاف "السبيرتو" المأخوذ خلسة من عياة السجن، ومن ثم توضع المادة الناتجة عن خلط الجراب مع "السبيرتو" في علبة "قطرة عيون فارغة"، للتحول بعدها إلى عطر فرنسي فاخر.

قبل الصلاة بنصف ساعة أو يزيد تسمع أصوات تكبيرات العيد مصحوبة بالطواف داخل الساحة بشكل دائري، الطواف هنا إجباري فهو الوسيلة الوحيدة للتغلب على صغر المساحة، أما التكبيرات فكان بعضنا يفضل تردادها مختصرة مكتفياً بمطلعها الأول، وبعضنا كان يحبذها كاملة لنهايتها، وذلك تبعا لمنطقة سكنه والطريقة التي اعتاد عليها، وإجمالا كان أهل الشمال يفضلونها كاملة، على عكس سكان المحافظات الجنوبية.

وما إن يعتلي الخطيب منبره (الاعتلاء هنا وقوف فقط مرتكز على كرسي أمامه)، حتى تبدو وجوه الأسرى حزينة شاحبة وعقولهم سارحة وأذهانهم مشوشة، كان بإمكانك أن ترى الحزن بعيونهم ونظراتهم، بكل تأكيد هم يتخيلون أنفسهم خارج الأسوار بين أهليهم، وكل واحد فيهم يستعيد شريطة ذكرياته، عن المكان الذي كان يصلي فيه العيد، ويحاول الخطيب هنا رفع الهمم والمعنويات وتذكير الأسرى بالنعيم الآخروي وغاية اعتقالهم وسمو مبادئهم.

بعد الصلاة كنا نصطف على شكل طابور ونبدأ بالسلام على بعضنا عناقاً وتبادلا للقبلات ونصبح بهدها بحاجة لحمام جديد، وفي هذه الأثناء يسامح الأسرى بعضهم، وتصفى قلوب المتشاحنين والمتخاصمين ويطيب خاطرهم، بعد ذلك كنا نشرع بأداء بعض الأناشيد والأهازيج الشعبية، وهنا غالباً ما تتدخل إدارة السجن فتمنعنا حتى من رفع الصوت والتصفيق والدبكة.

بعدها كنا نتناول الحلويات والعصائر والفواكه المختلفة إضافة إلى سندويشات خفيفة، مصحوبة بقليل من المزاح، بعدها كانت تبدأ فقرة زيارة معرض الصور، صور أبناء الأسرى وأقاربهم، كانت تثبت على طاولة التنس بلاصق جروح تم سرقته من عيادة السجن، مع دفتر صغير لكتابة التعليقات والملاحظات، كانت فكاهية في أغلبها.

وفي هذا اليوم تتناسى الفصائل خلافتها وتضعها جانباً ولو بشكل مؤقت، ويتزاور ممثلو هذه الأحزاب فيما بينهم داخل الأقسام المتعددة ويقدمون التهاني لبعضهم البعض في مشهد وحدوي –استثنائي-، وخلال العيد تنظم اللجنة الرياضية دوريات ومسابقات في كرة الطائرة والتنس والشطرنج وتمنح الفائزين جوائز مالية تصرف على شكل "شيك" أو "كوبون" من الكانتيا.

أجواء العيد هذه قصيرة تنتهي قبل صلاة الظهر بساعتين تقريباً، ولا يتبقى منها سوا مشاهدة المسرحيات على التلفاز، كلها مكررة معادة بطلها عادل إمام: شاهد مشفش حاجة.. الزعيم.. الود سيد الشغال.

وتعتبر الأعياد من أصعب الأيام التي كنا نمر بها، خاصة نحن معشر المتزوجين، فالبعد عن الأهل في هذه اللحظات تبدو تجربة قاسية مريرة، بعضنا كان يعيشها للمرة الأولى في حياته، وبعضنا للمرة الثلاثين!!.