منذ ساعات الصباح الباكرة في الجمعة الأولى من شهر رمضان المبارك، تطوّع شباب القدس والبلدة القديمة بالذات – وبشكل عفويّ - كخلية نحلٍ لا تهدأ، يتحركون في خدمة الآلاف من زوار المدينة المحتلة ومسجدها المبارك والترحيب بهم، وخاصة الفلسطينيين من أبناء الضفة المحتلة، الذين حرمتهم إجراءات الاحتلال لسنوات طويلة من التواصل مع مدينتهم.
وبينما وقف أفراد شرطة الاحتلال مع حواجزهم على مداخل المدينة، رأينا هؤلاء الشباب المتطوعين على أبواب البلدة القديمة، يدلّون الناس والمصلين إلى طريق المسجد الأقصى، يوّزعونهم إلى طرق مختلفة لتفادي الازدحام في طرق محددة.
وعلى أبواب المسجد الأقصى، وبمساندة حراس المسجد وموظفي الأوقاف، يقف متطوعون آخرون ينظمون عملية دخول وخروج آلاف المصلين، يستقبلونهم بابتسامة عريضة وبرشة ماء بارد من البخاخات التي يحملون، لتخفيف أثر حرّ الصّيف عليهم. فيما ينظر جنود الاحتلال الواقفون عند أبواب الأقصى بذهول، كيف لهذه الأعداد أن تمرّ دون تصادم وإصابات من هكذا باب ضيق؟
أما داخل ساحات الأقصى، فما إن تخطو قدماك من الباب حتى ترى عشرات إن لم يكن مئات المتطوعين لخدمة المصلين، يتوزعون في مجموعات مختلفة، بعضهم يعمل على ترتيب الصفوف ورصّها، وبعضهم من لجان الإسعاف يتفقدون كبار السّن ويقدمون العلاج لمن يحتاج، وآخرون يمرّون على صفوف المصلين لرشّ رذاذ الماء البارد. كلّهم متطوعون، كلهم جاءوا ليخدموا زوّار مدينتهم، ويكونوا على قدر المسؤولية في إدارة هذا العدد الكبير من المصلين وفرض النظام.
وبعد الصلاة، لم يدر أي من المتطوعين ظهره، بل أكملوا واجبهم، توّزعوا – بشكل عفويّ كذلك - من جديد على الأبواب وفي أزقة البلدة القديمة، وأخذوا يرشدون الناس إلى أقصر الطرق، أو إلى أقلها ازدحاماً. رأيناهم ينادون بصوتٍ عالٍ: "اللي رايح عالشمال- رام الله قلنديا من هون يا عمي، واللي عالجنوب يروح ورا هداك الشاب". وفي موقف آخر، رأيت أحد سكان البلدة القديمة واقفاً أمام باب بيته، يدعو الماريّن بأعلى صوته: "اللي بده حمام أو متوضأ الله يحييه بيتي مفتوح للجميع".
هذه الصورة المشرقة التي عكسها شبان القدس اليوم هي الصورة التي يجب ألا تفارق أذهاننا ونحن نتحدث عن الشباب ودورهم المأمول في القدس، هذه الهبة العفوية الفطرية التي تحيي الأمل في قدرة هذا المجتمع على إدارة شؤونه بنفسه – ولو على المستوى البسيط في إدارة صلاة جمعة - دون الحاجة إلى تدخلات الاحتلال، أو إلى برامج المؤسسات الممولة والتي تزيد من اتكالية المجتمع لا من عصاميته.
شباب القدس ليسوا بحاجة لبلدية الاحتلال ليزينوا الشوارع، ولا لتعليق لافتات التهنئة برمضان أو اللافتات الإرشادية للطرق، شباب القدس أدرى بشعابها، وهم أحقّ بإكرام ضيوف المدينة من أهل الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948.
ولعل ما حدث اليوم، يعيدنا إلى عام 2013 ليذكرنا بتلك العاصفة الثلجية التي سدّت الكثير من الطرق غربيّ القدس، وبينما بقيت طواقم بلدية الاحتلال عاجزة لأيام عن فتحها وإزالة الثلوج، كان شباب البلدة القديمة يسطرون مثالاً ونموذجاً وطنياً مستقلاً وناجحاً لإدارة تلك الازمة.
قاموا بتشكيل لجان شعبية تفرقت بين الأزقة، ناشطون ومسعفون ودفاع مدني بدأوا بفتح الطرق وسدّ حاجة الناس دون انتظار أي مساعدة من الاحتلال.
لقد كانت تلك التجربة إثباتاً على قدرة المجتمع الفلسطيني على إدارة شؤون الحياة وتلبية حاجات الناس الأساسية، عندما تتوافر الإرادة لذلك، تتذلل العقبات، وتصبح الأماني والأحلام قريبة التحقيق.
نستذكر ذلك في وسط بعض أصوات النشاز التي تصرّ على إحباط عوامل النشاط والقوة في المجتمع الفلسطيني في القدس، والتي يتم توظيفها من أجل الإدعاء أنه "لا يمكننا الاستغناء عن الاستعانة ببلدية الاحتلال"، أو أننا بدون "جهة رسمية راعية" لا نفلح في إدارة شؤوننا. ولعل الرجوع إلى قصص الانتفاضة الأولى التي تعكس قدرة المجتمع على إدارة شؤونه إثبات آخر على ذلك.
وكل عام والقدس زاخرة بأهلها في رمضان وغيره.