شبكة قدس الإخبارية

في ذكرى النكبة.. لنتبع الشهداء ولنستمع للوطن

سامر عطياني

منذ تسعة وستين عاما، وقلب الأمة العربية النازف يعزف لحن الألم وحيدا لا يسمعه إلا من أتاه بقلب سليم يريده، ظَل هكذا إلى يومنا هذا، على عاداته لا يتغير وعلى عهده لا ينسى، يحترق شوقا لأبنائه الذين تبعثروا في أصقاع الأرض يبحثون عن الحياة بعيدا عن الموت، يبكي شهداءه ويلملم أشلاءهم ليحتضنها في جوفه خوفا من أن ترحل هي الأخرى.

يجلس على ناصية الحزن ويصرخ في وجه من باع وخان مهددا إياهم: مهما طال الزمن، يوم الحساب آت لا مفر.

كان الحدث هناك في فلسطين عندما انتَكَبَ العرب وسرقت الأرض الفلسطينية منهم، وقتها لم تجد الجثث الملقاة على رصيف الموت سوى عدسة مصور بارع ليلتقط منها صورة تأخذه للعالمية، وبعض الوعود العربية، وبقايا ذاكرة طفلة بُتِرَت ساقها حين هربت من الموت بعد أن بُقِرَ بطن والدتها الحامل بأخيها أمامها فرأته ينزل من بطنها قبل موعده ملطخا بدم التخاذل يشتم الخيانة.

هربت الطفلة تحمل معها مفتاح بيت والديها وأَسمته مفتاح العودة، وحجة ملكيته لتثبت ملكيتها، وقدمها المبتورة حملتها لتكون شاهدة على ذاكرتها المؤلمة لتسرد الجحيم لمن تقابلهم، وستسرد حكايتها وتقول: كنت في يوم القيامة، نسيت دميتي، وتركت طفولتي تحرس جثة أمي وأخي، وأقسمت أن أعود.

في الحقيقة سردت حكايتها، ولكن أصحاب الخيانة سرقوا قدمها وأسكتوها خوفا من أن تفضح زيفهم فذبحوها بعيدا عن أرضها، صرخ البعض: قتلها إخوة يوسف، هي والوطن يوسف، والعدو والمتخاذلين من العرب إخوته، ومن ثم عادوا ليبكوا نكبتهم، وصمتوا كصمت القبور.

هذا ما حدث، ومنذ ذلك الحين والوطن يَئِن ويقسم ويعاهد على أن يحفظ المخلصين بين حبات التراب الطاهر وأن يُؤوِي أجسادهم في كنفه لينبتهم مع الأشجار فيراهم العائدون على أوراقها،

لم يسمعه إلا من اختار الشهادة في سبيله طريقا ومضى نحوها ينشد لحن الموت حتى يرتقي، ومع كل شهيد يرتقي كان الوطن وفيا، تسقط قطرة الدم في الأرض تفتح قبرا يحتضن الشهيد.

إذا هي طقوسه المعهودة، أعني التذكير بأنه مازال مصلوبا تحت حراب الاحتلال والأنين، ففي كل ليلة من ليالي الخامس عشر من ذِي النكبة بالتقويم العربي للهزيمة والكل نيام، عندما يأتي الليل حاملا ستارته السوداء المرصعة بالألم ويرميها على الكون الفسيح فيغرق في الظلام، ويقف حارسا عليه ليبدأَ الجبروت، يأمر القمر: اظهر بدرا، اظهر هلالا، اِختَفِ هذه الليلة، ويستجيب، فهو لا يملك إلا الطاعة، ولكن الألم مخادع ومتمرد، لا يستجيب لليل وجبروته، يغافله في نوبة حراسته ويتسلل خلسة من أسفل ستارته ويسكن القلوب السليمة التي تسمع أنين الوطن.

يرسل أنينه وقسمه وعهده تحت جنح الليل، تسمع القلوب النداء، فَتَئِن السليمة منها على وقع تلك الألحان المناجية للأَحرار أن هبوا لنصرتي طال زمن الفراق.

تسمعها ترجوهم: سأساعدكم، سأنادي أهل القبور لاستقبالكم وستصدح الجنة بالزغاريد، وسأعلق صوركم أُزَينُ بها التاريخ ليبدو أجمل بكم.

ولكن حاضرنا مقيت، تسعة وستون عاما مضت ولم يتغير الشيءُ الكثير، فالعدو أصبح صديقا، والمحتل أضحى صاحب الأرض، والمقاومة "إرهاب"، وقتال المسلمين لأنفسهم أولى من قتال الصهاينة، والأسير منسي، والتعاون مع العدو لم يَعُد خيانة بل أصبح تنسيقا أمنيا، والصراع على المنصب أهم من الصراع مع العدو، وقصف صنعاء ودمشق وبغداد أولى من قصف "تل أبيب"، لم يتغير الشيءُ الكثير سوى أننا لم نَعُد نحن، أصبحنا ننطق بالعربية ولا ننتمي لها.

إِذاً، متى سنصغي للوطن ونلبي نداءه؟...

الجواب: عندما نتبع خطوات الشهداء، ونلحق بركبهم يحتضننا الوطن جميعا....