ذكرتنا وثيقة "السياسات والمبادئ العامة" التي أعلنتها حركة حماس في الدوحة مساء 1/5/2017 بالمعضلة المركزية لقضية فلسطين: أن من يحمل مشروع تحرير فلسطين سيحظى بتأييد الجماهير بغض النظر عن أيديولوجيته، وستؤمن به وتضع تضحياتها بتصرفه، وأن المحتل الصهيوني بالمقابل سيحاربه بكل قوة ويحاول كسر شوكته، وأن الغرب سيسعى لإحاطة هذا الصراع بحصار مطبق يؤكد اختلال ميزان القوى لصالحه ولصالح إسرائيل.
سيُمسي ذاك الذي يحمل مشروع التحرير على أكتافه منهكاً بالخسائر محاصراً ومهدداً في وجوده الحالي والمستقبلي، بينما الجماهير التي تمدّه بأسباب البقاء والاستمرار غير قادرةٍ على تعديل الكفة وتغيير ميزان القوى رغم عِظم صبرها وصمودها وتضحياتها، وستسهم أخطاؤه –القليلة أو الكثيرة- التي يرتكبها في إخلال الميزان أكثر في غير مصلحته، وسيمسي لكل خطأٍ ثمن فادح في محيطٍ لا يرحم.
للمرة الثانية تتكرر معنا هذه التجربة، ونجد القوة الشعبية المؤتمنة على مشروع تحرير فلسطين محاصرةً ومهددةً و حلفاؤها قبل أعدائها يجرونها إلى خفض سقوفها وتقديم التنازلات، ولم ننجح كشعبٍ أو كشعوب في تغيير هذا السيناريو للمرة الثانية في تاريخنا.
في عام 1974 وقفت منظمة التحرير في هذا الموقف الذي تجلى بأوضح صورهِ في حرب 1982، واليوم تقف حماس، القوة الشعبية الأساسية التي حملت هذا المشروع بعدما أوشك أن يسقط وأمدته بمداد الجهاد والدم والتضحية، تقف في الموقف ذاته بعد حروبٍ ثلاث ضارية على قطاع غزة، وتهديداتٍ بحربٍ جديدة، بعد حصارٍ مطبق عمق جراح غزة ومنعها من إعادة الإعمار والتعافي من آثار تلك الحروب.
إن كان من درسٍ تحتاج النخبة الفلسطينية والعربية إلى الوقوف عنده فهو إيجاد إجابةٍ لهذا السؤال: كيف نخرج من هذا الحصار، وما السبيل إلى قلبِ ميزان القوى.
في ظل هذه المقدمة تحاول هذه السطور تقديم قراءةٍ في وثيقة حماس الجديدة:
أولاً: سؤال الإرادة السياسية: كان البند رقم 20، والذي اعتبر أن "حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خط الرابع من حزيران/ يونيو 1967 مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة"، البند المحوري والإشكالي في الوثيقة، لكونه يشكل قبولاً بحل الدولتين، وبفكرة المرحلية وما تقتضيه من إقامة سلطة مؤقتة على الضفة وغزة، وإن كانت الوثيقة تسوغه بدافع التوافق الفلسطيني.
والتجربة التاريخية التي خاضتها فتح تخبرنا بأن كل ما يحيط بهذا التنازل من مسوغات واشتراطات قد يمسي مجرد لغو إذا ما كانت القيادة السياسية تسعى إلى اتخاذه مدخلاً لتأهيلها دولياً، فمن بين 535 كلمة موزعة على عشرة بنود في برنامج النقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشرة في القاهرة عام 1974 صمدت كلمتان: "إقامة سلطة"، وكان واضحاً أن الإرادة السياسية للقيادة ماضية في هذا الاتجاه وأن كل ما سواها كان ديكوراً تجميلياً لتمريرها.
السؤال المفصلي أمام قيادة حركة حماس الآن: إلى أين تتجه إرادتها السياسية الآن، وما هي الأولوية التي ستدفع باتجاهها من بين البنود الـ42 في الوثيقة؟
من المفهوم أن شعباً مرّ بتجربةٍ كتجربة النقاط العشر انتهاءً بأوسلو عليه أن يخاف كثيراً من أي وثيقة سياسية جديدة، ومن أي تنازل، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن حركة حماس اليوم تكرر مسار فتح –وإن كان هذا ما تتمناه قيادة فتح الحالية- والسنوات القادمة هي اختبار حقيقي للإرادة السياسية لحركة حماس.
لقد قدّمت فتح ثمناً كبيراً من التضحيات، وخاضت مواجهات لبنان المتتالية وفقدت كوكبةً من نخبة القادة السياسيين والعسكريين حتى انتهت إلى قيادةٍ تخشى فكرة تحدي إسرائيل، وترتعب حتى من فكرة التراجع عن الالتزامات الأمنية تجاهها، ونجحت عملية الكي الصهيوني والغربي لوعي قيادتها، فهل تكرَّر هذا مع حماس؟ أم أن هناك فارقاً بين التجربتين.
ثانياً: سؤال الوحدة الوطنية: لقد كانت فتح هي من اقتيدت تحت الضغط للخروج عن الثوابت الفلسطينية، وهو ما أفسح الفراغ أمام صعود حماس، والأصل أن الوحدة ينبغي أن تُصنع على قاعدة عودة قيادة فتح للوقوف على أرضية الثوابت ذاتها، أما الاقتراب منها بالحديث عن إمكانية الخروج عن الثوابت من أجل الالتقاء معها فهل يمكن أن يصنع وحدةً وطنية؟ أم سيزيد الخلاف عمقاً وحدة بين مختلف الأطراف الفلسطينية.
لم تضل الجماهير الفلسطينية بوصلتها بالمجمل، وكانت تسلم ثقتها لكل من يمثل تطلعاتها بالتحرير والعودة، وهي مستمرة بذلك، والخروج عن الثوابت للقاء الشقيق الضال قد ينتهي بشقيقين ضالين وثالث يظهر ليسد مكانهما، ومن هنا فإن الأرضية الوحيدة للوحدة الفلسطينية هي اللقاء على أساس مشروع تحرير فلسطين كل فلسطين، وهو مشروع ليس كفيل فقط بتحقيق لقاء بين حماس وفتح، بل كفيل باحتواء جماهير الأرض المحتلة عام 1948 وجماهير اللاجئين الذين شطبتهم البرامج المعدلة لمنظمة التحرير.
ثالثاً: سؤال الجدوى: ما هو المآل المنتظر من الموقف الذي قدمته هذه الوثيقة: هل فعلاً يمكن أن يحصل لقاء مع قيادة فتح على أساسها؟ أم ستشكل منطلقاً لتمترس قيادة السلطة النفعية الحالية حول "صوابية رؤيتها السياسية" وتعود إلى دعوتها المحنطة لحماس للالتحاق برؤيتها بل و"الاعتذار عن خطئها"؟ ألا يمكن أن يشكل هذا الإعلان من حيث "التكتيك" مكسباً لمحمود عباس بين يدي لقائه المرتقب مع ترامب لتعزيز فرصه في التمثيل الفلسطيني والعودة إلى عملية تفاوضية؟
أما عربياً، ففي ظل تراجع الغطاء الأمريكي عن الخليج العربي وتوجه دوله لاستعادة هذا الغطاء من البوابة الإسرائيلية؛ فكيف سيقرأ هذا الموقف؟ وإذا كان موقف كهذا لم يأت في ذروة التوحش الأمريكي بعد هجمات سبتمبر واحتلال أفغانستان والعراق وحروب لبنان وغزة المتتالية، فما جدوى ظهوره الآن مع بداية التراجع الأمريكي الذي بات ظاهراً للعيان؟ هل نحن أمام ماكينةٍ سياسية بطيئة تناقش الأفكار منذ ذلك الوقت لتنضجها وتطرحها في غير موعدها؟
حل الدولتين مات عملياً، وانتهت إمكانية تطبيقه على الأرض إلى غير رجعة، وجل التركيز الأوروبي -والأمريكي إلى حد أقل- على مدى السنوات الماضية تمحور حول محاولة "الحفاظ على إمكانيته" دونما نتيجة، فما جدوى الاقتراب من حل الدولتين الآن كأرضية توافق وطني بعدما أصبح خارج التاريخ وخارج الجغرافيا؟
درسان مهمان علينا أن نخرج بهما قبل فوات الأوان:
الأول: هو أن علينا دعم وحماية أية قوةٍ تحمل مشروع التحرير بكل قوةٍ حتى لا تنتهي إلى التدجين والتنازل، والشماتة والمزاودة ليسا إلا إسهاماً سلبياً، والمطلوب الآن هو إيجاد حلولٍ حقيقية لحماية غزة وتخفيف طوق الحصار عنها وكسر العزلة السياسية التي تسوق قيادة حماس إلى تنازلٍ كهذا، والتجربة التاريخية تقول أن الفلسطينيين بنوا قوتين حملتا مشروع التحرر على مدى السنوات الخمسين الماضية، وليس تكرار التجربة أمراً سهلاً أو ترفاً يملكونه.
الثاني: لا بد لقيادة حماس أن تُدرك أن التنازل لا يمكن أن يشكل أساساً لوحدة وطنية، وأننا رغم ضيق الخيارات أمامنا خيار واحد وحيد وهو دفع إسرائيل إلى الخلف بالقوة، حتى لا تعود قادرةً على كسر أو تطويع من يحمل لواء مشروعنا الوحيد الممكن: تحرير فلسطين.