لم تقتصر صورة المرأة الفلسطينية المُقاوِمَة على حمل السلاح ودخول المحافل السياسية من أوسع أبوابها، بل أخذت منحىً آخر يُجسد الجانب المعنوي ويبرِز قدرة الفلسطينية على الثبات والصبر والتحدي في الإنتظار.
هذه المرة لن تنتظر الفلسطينية سوى قدرا اختارتهُ بملئ إرادتها واستعذبت ألم الغياب بسبب قرارها "بالارتباط من أسير داخل سجون الاحتلال" لتقول للعالم أن الذين يضحون من أجلنا يستحقون أن ننتظرهم ونضحي لأجلهم وهو أبسط ما يمكن أن تقدمه الفلسطينية لأسير أحب وطنه فوجدَ مَن يُحبه.
بدأت بفكرة وإنتهت بخطبة
غفران زامل من مدينة نابلس هي إحدى الفتيات اللواتي صممن على الارتباط بأسير، ففكرة ارتباطها بحسن سلامة من غزة صاحب عمليات الثأر المقدس والمحكوم مدى الحياة قديمة جدا وقبل اعتقالها بسنوات. تقول غفران: "كنتُ انظر إلى حسن كحلم صعب أن يتحقق بل اعتبره ضربا من الخيال والوهم الذي أعيشه لنفسي، تابعت أخباره وقرأت كتابه الثأر المقدس وبصفة عملي كصحفية حرصت على معرفة كل ما يخصه، وكنت وأنا أتابع أخباره وأقرا عنه أشعر بأنه الشخص الذي ابحث عنه، كل شي فيه جعله محور اهتمامي وتفكيري وكثيرا ما نظرت إلى صورته وابتسامته خاصة في قاعة المحكمة في حالات ضيق مررت بها".
وتضيف: "عندما تم اعتقالي علمت تفاصيل خطبة أحلام التميمي من خطيبها الأسير وأخبرتها عن رغبتي بالارتباط بحسن، فظنت وقتها أن طلبي مجرد ردة فعل لاعتقالي وقراري من باب الشفقة عليه، ولكن عندما رأت إصراري أرسلت أحلام لحسن رسالة تخبره بالأمر، بالبداية رفض من باب اعتباره الأمر ظلم لي إلا أنني أرسلت له رسالة أخرى وأخبرته بمحبتي له وحبي للارتباط به وانه حلم بالنسبة لي وكان يشكل محورا مهما في حياتي رغم بعده ورغم أسره، تواصلنا في البداية من باب التعارف إلى أن أفرج الاحتلال عني وتمت الخطبة بشكل رسمي وشرعي".
ردود فعل ومشاعر فراق
غفران لم تتردد نهائيا في قرارها هذا، وكلما اقتربت خطوة من تحقيقه شعرت بسعادة أكبر لأنها تقترب من حلم حياتها على حد قولها. تقول غفران: "عندما اعتقلني الاحتلال شعرت أن الأمر أصبح ممكنا وصار تفكري جديا لأنني مُقبلة على واقع، كان هناك تخوف من رفض عائلتي مع علمي أنهم لا يمانعوني بقرار اتخذته، لذلك مضيت بالأمر وهم لا يعلمون عنه شي بل لم اخبرهم إلا بعد الإفراج عني وكنت حينها تواصلت مع حسن أكثر من مرة، ووقتها كان هناك رفض للموضوع ولكنهم حينما لمسوا إصراري وتمسكي بخياري وقراري باركوا لي هذا الخيار بل ووقفوا بجانبي، وشخصيا لم التفت إلى نظرة الناس فموضوع الخطبة من أسير لا يوجد عليه إجماع مطلق، وكما تصادف المشجعين سترى المثبطين، لذلك لم اسمح لنفسي أن أسمع المثبطين وحتى في حال سمعتهم كانت كلماتهم لا تتعدى السمع، وكنت واثقة من قراري ومن اختياري بل سعيدة جدا فيه".
غفران تصف مشاعرها في غياب خطيبها حسن قائلة:" شعوري وحسن بعيد عني شعور مؤلم جدا فالشوق له يزداد يوما بعد يوم وحبه في قلبي حبا لا تصفه كل الكلمات، اشتاق له واشعر بحاجتي إليه ولكنني اصبر واحتسب هذا البعد على أمل أن يجمعنا لقاء قريب وأنا على ثقة بهذا اليوم إن شاء الله، رغم البعد والألم والشوق وعذابه إلا أنني والله أعيش معه بسعادة لربما لا يعيشها من هم في بيت واحد، أحبه ويحبني وبحبنا سنتحدى كل شيء".
بين استفزاز المجمع وتحديها
"تجربة اعتقال الخطيب صعبة جدا وتزداد قسوة بأيام البعد, بنفس الوقت المفروض أن تملك الخطيبة الوعي الكامل لهذا القدر المُحتّم والمتوقع وعلى الخطيب تهيئتها لهذا الأمر وإعطائها فكرة عن هذا الطريق ولو بالقليل". هذا ما قالته أسماء عمر من محافظة سلفيت لمركز أسرى فلسطين للدراسات، والتي ارتبطت بالأسير مراد أبو البهاء في سجن نفحة، حيث أكدت على أن المواقف الإيجابية من أهلها وأهل الخطيب غير كافية خاصة عندما تخرج للمجتمع وتبدأ الأسئلة والتعليقات التي تأتي على شكل عتاب أو عقاب.
تقول أسماء: "لا زلت أسمع تعليقات من المجتمع أشعر وكأنها بهدلة، مثلا يقولون لي عند أول حديث يدور بيننا عن الموضوع وكأنهم يحاسبونني( ألستِ أنتِ من إخترتِ شخص "خريج سجون") وينسون أنه أسير وليس مجرم! أو ( لو كان يحبكِ لما عمل أي شيء من شأنه أن يقوده للسجن ويترككِ وحيدة، هل من المعقول أنكِ ستصبرين سنوات! عندما يخرج يجب أن تعاقيبه وتضيقي عليه)، وفي كثير من الأحيان أجد من يتكرم علي بنصيحة مفادها أن أفسخ خطبتي به وأكمل حياتي فأنا بنظرهم لستُ متزوجة ولا زلت في بر الأمان".
وتضيف:" أعلم أن ما أسمعه كلام جاهلين لا يعرفون معنى التضحية والمبدأ لكنه مستحيل أن يمر على نفسيتي مرور الكرام دون أن أتأثر به، عدا عن ذلك الأسئلة الإستفزازية والتي يوجهونها لي من باب الإطمئنان، كم مدة حكمه؟ كم بقي له؟ كيف يفعل كل هذا ويترككِ؟ فتجدهم يزيدون الهم، وهناك الكثير من صديقاتي إرتبطن بأسير يعانين من العائلة عن طريق الضغط عليهن بفسخ الخطوبة وعدم الإنتظار، ويمكنكم تصور نفسية الفتاة عندما لا تجد من يقف بجانبها في مثل هذه الخطوة".
أهل الخطيب عائقآخر
لا يتوقف الأمر عند معارضة أهل الفتاه على الارتباط بأسير أو نظرة المجتمع الضيقة لهذه الفكرة، بل أحيانا يقف أهل الأسير عائقا أمام خطبة ابنهم المحكوم مدة طويلة لأسباب سخيفة لا تمت للواقع بشيء، وبذلك يدفع الأسير ثمنا مضاعفا لا يعي ألمه سواه. هنية ناصر (21عاما) الطالبة في جامعة القدس المفتوحة من مدينة رام الله تروي لمركز أسرى فلسطين للدراسات معاناتها عندما قررت الارتباط بأسير محكوم 14سنة ونصف في سجن النقب، حيث تربت في عائلة اعتادت على اعتقال الاحتلال لأفرادها، فكانت تشاهد بأم عينها كيف يتم اعتقال إخوانها وأولاد عمها، ومنذ طفولتها تمسكت بقضية الأسرى وأصبحت تعني لها الكثير خاصة بعد اعتقال إبن عمها فواز ناصر والذي حُكم عليه 36 سنة، فهو بالنسبة لها كان الأب الحنون الذي يلاعب طفلته ويلاطفها دوما.
كانت هنية ترى خطيبة ابن عمها وتضحيتها ومعاناتها عند زيارته أو حتى في إنتظار رسائله، ورغم صعوبة الموقف إلا أنها شعرت بجمال انتظار إنسان غالي على القلب، وبدأت تحلم بالارتباط بأسير ليس بالضرورة أن تعرفه، ومن خلال صلتها بأشخاص لديهم حس وطني بدأت تعمل كناشطة في مجال الأسرى وتعرفت وقتها على خطيبها الأسير الذي كان معتقل في سجن النقب المعروف بوجود وسائل اتصال فيه.
تقول هنية:" تعرفنا على بعضنا عن طريق تواصلنا في المجموعات الخاصة بالأسرى على مواقع التواصل الإجتماعي، ولأن بداخلي حس وطني كبير وفكرة عظيمة لم أتردد بالارتباط به أبدا، وبدأت أحبه وهو أيضا عرفني جيدا من خلال سؤاله عني ومعرفته لأخوتي وأولاد عمي الذين عاشوا مع أصدقاءه في نفس السجن، ورغم قرارنا بالارتباط إلا أن الصعوبات بدأت تظهر أمامي، فعائلتي رفضت أن أرتبط بشخص مجهول لم أعرفه من قبل وكانت تخيفهم فكرة أن يعود للسجن مرة أخرى بعد خروجه وبالتالي أعيش حياة صعبة وغير آمنة، كما أن خطيبة ابن عمي تركته وهذا أثر أيضا على أهلي، وكانوا يشجعونني على الارتباط بقريب تقدم لي، لكنني رفضت تماما، فأنا أحلم بالإرتباط بشخص غير عادي ذو تجربة ومبدأ، وبعد ذلك أقنعت أهلي عن طريق أخي ولقيت قبول للفكرة من قبل صديقاتي اللواتي مررن بتجارب مشابهة، وبما أنه تم اعتقالي لثلاثة أشهر بعد الحكم علي عامين وأربعة شهور أصبحت لدي قناعة بأن باب السجن لا يُغلق على من لديه إرادة وتحدي، وعندما يكون الانتظار متعلق بشخص غائب لأجل الوطن يصبح له طعم آخر ممزوج بالحزن والأمل".
وعن سبب إنفصالها تقول هنية:" سبب الانفصال هم أهل خطيبي، حيث كانت معاملتهم سيئة جدا معي، رغم توقعي للمشاكل نظرا لما أسمعه من صديقاتي زوجات وخطيبات الأسرى، فعندما وصلت وكالة كتب الكتاب رفضوا تزويجنا وكانت حجتهم واهية مفادها أنه لا يجوز أن يرتبط إبنهم بفتاه لا يعرفونها ولا يعرفها أو تَعَرَفَ عليها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحوا يخترعون لي المشاكل كي أبتعد عنه لدرجة أنهم تواصلوا معي عدة مرات عبر الهاتف وتفوهوا بكلام سيء بحقي، وفي نهاية الأمر اتصلوا على عائلتي وأخبرونا أنهم سيتخلون عن ابنهم إن بقينا سويا، عدا عن الإشاعات المغلوطة التي أوصلوها له في السجن كي يكرهني ويبتعد عني، الأمر الذي جعل الحب يكبر فينا، وفي النهاية رضيت بما كتبه لي الله وابتعدت عن هذا الأسير مع قناعتي بأنه إن كان نصيبي سيكون لي ولو كل الدنيا عارضت، ورغم أن تجربتي قاسية جدا إلا أنني لا زلت مصرة على الارتباط بأسير وتحقيق حلمي".
أمور في الحُسبان
يوضح أستاذ الشريعة الإسلامية في الجامعة الإسلامية بغزة سابقًا النائب يونس الأسطل بأن الدين لا يمانع أن يكون للأسير خطيبته التي تنتظره. ويقول: "انتظار الخطيبة لخطيبها لمدة طويلة هو وفاء حقيقي منها وهذا نوع من أنواع جهاد المرأة، لكن يحق للمخطوبة أن تطلب الخلع إذا طالت مدة اعتقال خطيبها".
ويضيف:" من حق الأسير رفض خطيبته دون رضاها إذا أراد مصلحتها، ولكن إذا رفضت هي الطلاق فيجوز أن يراجعها في الطلاق في فترة العدة، وبذلك يكون طلاقاً رجعياً وتبقى على ذمته، وباعتقادي يجب على الفتاة أن تأخذ في حسبانها عدة اعتبارات عند تعليق مصيرها بالأسير، منها ذهاب جمالها إذا طالت مدة حكم خطيبها، أو أن يتركها خطيبها إذا خرج من السجن ويتزوج من فتاة أخرى؛ وبذلك تكون كارثة بحق الفتاة من الإنسان الذي ضحت بعمرها من أجله".
وجهة نظر أخرى
هناك وجهة نظر أخرى بشأن موضوع خطبة أسير تتجه بإتجاه التروي قبل اتخاذ هكذا قرار رغم أن ما تقدمه الفتاه التي تُقبل على خطبة أسير يأتي كدعم بطريقة مختلفة.
أم البراء من مدينة رام الله زوجة الأسير أحمد حامد المحكوم ثلاثة مؤبدات في سجن نفحة تقول لمركز أسرى فلسطين للدراسات ناصحة من يُقدمن على خطبة أسير:" أنا لا انتقد هذه الخطوة فكلُ شخص يقدم ما بوسعه لخدمة الأسرى ولكن اقول أن عليهن التفكير جيدا بالهدف الأساسي، فهن قادرات على تقديم الكثير للدين والوطن وليس شرطا أن تكوني قريبة أسير أو خطيبته لتجاهدي، فجهادك في بيتك وفي تربية أبنائك وفي إنشاء جيل صالح هو خير من بقائك تنتظرين سنين طويلة تعانين فيها من فراق الخطيب ومن محاولة التقرب من عائلته ومن التنقل في المحاكم والزيارات دون حتى أن تكوني واثقة بأنك ستكونين زوجة له بعد خروجه، وحديثي هذا ليس موجها لأحد بعينه أو تشكيكا بإخلاص الأسرى لكن من اجل التوعية لأخوات ما زلن في مقتبل العمر".
وتضيف:" أوجه هنا رسالتي إلى أهل الأسرى بأن اقل ما تقدمونه لزوجات أبنائكم أو لمن ضحت بعمرها من اجل أن تنتظر ابنكم أن تنظروا لها كابنة لكم وليست كمنافسة تريد سرقة ابنكم، فبعد فضل الله يكون الدور الكبير لأهل الزوج في تفهم ما تقدمه الخطيبة".
مفاهيم نظرية
ميسر عطياني الناشطة في مجال الأسرى وحقوق المرأة تقول لمركز أسرى فلسطين للدراسات بأن إرتباط الفتاة بأسير ذو محكومية عالية هي حالة تضحية نضالية بالمفهوم النظري أكثر مما هي عليه بالمفهوم العملي، لأن جسد المرأة والرجل لهما كينونتهما.
وتضيف:"مع احترامي الشديد للمرتبطات بالأسرى داخل سجون الإحتلال إلا أنه عليهن التفكير مليا بهذا الموضوع، نحن نقدر الناحية العاطفية التضامنية لكن بالواقع يوجد ألم كبير ومشترك بين الأسير والخطيبة، وهناك نقطة مهمة يجب أن تقف عندها كل فتاه وهي عند خروج الأسير من السجن بعد فترة طويلة هو يبقى بحيويته ونشاطه في هذا المجتمع الذكوري والفتاة تكون قد كبرت بالعمر ولن تكون بنفس الجمال السابق أيام شبابها، فلن يُسمح له بالإرتباط بالمرأة التي إنتظرته إلا من كان بينهم عقد قِران، وهذا ينقلنا إلى الأسرى المحررين الذين خرجوا بعد أكثر من 20 سنة وكانت أعمارهم بالأربعينات إلا أنهم تزوجوا فتيات صغيرات بالسن ما يقارب 17 سنة".
وتتابع:" عندما يخرج الأسير من السجن يفكر في تكوين عائلة ويساهم بالنظرة السلبية بالمجتمع فهو يريد امرأة صغيرة بالسن يعيش معها حياته وينجب منها الأطفال، وإن لم يكن لديه وعي سياسي وثقافة مميزة تسبق التفكير المجتمعي بالسلبي سوف لن يُجدي الإنتظار، وللأسف المجتمع يبرر ما ذكرناه ونحن النساء نبرر للرجل هذا العمل عن طريق عدم محاربة هذه النظرة".
تبقى مسألة الخطبة من أسير متراوحة بين مدة حكمه والجرأة بإتخاذ قرار كهذا والقبول بالتضحية لأجل الفكرة، ومع أن كل مَن تمر بتجربة مشابه تنصح أي فتاه بعدم التردد والإقبال على الموضوع إلا أن التفكير بجميع الجوانب أمرا قد يبدو أكثر منطقية خاصة أن مسؤولية الإختيار تقع على عاتقها، وبما أننا فلسطينيات تتعدد طرق مقاومتنا وبهده الخطوة نكون قد أوصلنا رسالة للمحتل مفادها أن للأسرى حياة مستمرة خارج القضبان تهبها لهم كل من أقدمت على إنتظارهم.
مركز أسرى فلسطين للدراسات – نابلس