قليلا من التاريخ:
-الزمان 11/4/1974 -المكان: الخالصة، بلدة في الشمال الفلسطيني.
ثلاثة فدائيين: "عراقي، وسوري، وفلسطيني"، أعضاء في الجبهة الشعبية –القيادة العامة. يقتحمون مستوطنة "كريات شمونة" ويسيطرون على مبنى كبير فيها، والهدف: الإفراج عن 100 معتقل. القائمة محددة: تسعة وتسعون مقاتلًا فلسطينيًا وعربيًا، وفدائي ياباني واحد إسمه كوزو آكيموطو.
بعد أن جمّع المقاتلون الرهائن في أحد الطوابق، وتموضعوا في نقاط المراقبة، قاموا بالتغطية على النقص المريع في عددهم، فثلاثة مقاتلين، سيضّطر أحدهم للاهتمام بحراسة الرهائن، سيجبر الفدائيان الباقيان على تدبر أمرهما في تغطية المبنى من أربعة جهات. هذه مهمة مستحيلة، خصوصًا في عملية خطف رهائن، وسط بيئة معادية، في عملية لا أحد يعلم متى تنتهي. ولذا، فقد وزّع المقاتلون الحشوات الناسفة التي حملوها معهم عبر الحدود في زوايا البناية، واستحكموا، وأطلقوا إنذارهم: "المئة فدائي أو المجزرة".. اختار الإسرائيليون المجزرة!.
سقط في تلك العملية، إلى جانب الجرحى، 18 إسرائيليًا. كما استشهد المقاتلون الثلاثة، العراقي ياسين الموسوي (أبو هادي)- قائد المجموعة، والسوري أحمد الشيخ محمود، والفلسطيني منير المغربي. (لاحقًا، أطلق متحمّس مجهول على الانترنت إشاعة تقول بأن طلال حيدر قد كتب قصيدة للفدائيين الثلاثة وأن فيروز قد غنّت "وحدن بيبقوا" كرمى لهم).. غنّت فيروز لهم أم لم تغنّ،ليس مهمًا!
المهم هو أن دوي الانفجارات المتلاحقة قد ظل يرن في رؤوس القيادات الأمنية الإسرائيلية منذ ذلك التاريخ، إذ كيف تفشل الشرطة والمخابرات والقوات العسكرية كثيفة التواجد على ذلك الطرف من الحدود في إحباط تسلل ثلاثة شبّان؟ وكيف تفشل في إنهاء عملية احتجاز الرهائن في قلب المستوطنة الأكبر شمالي فلسطين؟
بعد شهور من وقوع عملية الخالصة، استدعى "حاييم ليفي" قائد سلاح حرس الحدود، وهو تشكيل شرطي مسلح شبه عسكري، ضابطا يلقّب باسم "نمرودي" [اسمه الحقيقي ريئوفِن يعقوب] وألقى على كاهله مهمة تشكيل وحدة قادرة على التعامل مع حالات خطف واستحكام، كحالة الخالصة. وهكذا، نشأت وحدة مكافحة الإرهاب الإسرائيلية. واسمها "يَمام" [بالعبرية ي.م.م.، وتعني "الوحدة المركزية الخاصة"] اختار نمرود مقطعًا من سفر المزامير ليكون شعارًا لفرقته الجديدة " أطارد أعدائي فأدركهم ولا أعود حتى أفنيهم." [مزمور 18- 38]
منذ ذلك الوقت، نسبت إلى فرقة اليَمام عشرات العمليات التي عدّت ناجحة، والمتمثلة في اغتيال عشرات المطلوبين الفلسطينيين. وذلك رغم أن غالبية العمليات التي تناط بهذه الوحدة ، تظل، بحسب ادعاء لواء حرس الحدود، طي الكتمان. وقد عملت "يَمام" منذ ذلك الوقت بشكل لصيق مع جهاز الشاباك إلى حد أن المحلل الاستخباري الإسرائيلي، يوسي ميلمان، يعتبر وحدة "يَمام" تابعة لجهاز الشاباك، لا حرس الحدود. على الأقل من ناحية عملياتية. وفي موقع الانترنت الخاص بجهاز الشرطة الإسرائيلي، تفخر الشرطة بأن هذه الوحدة التي تتبعها تنظيميًا، تعد واحدة من أفضل وحدات مكافحة الإرهاب في العالم.
منذ إنشائها، اعتمدت اليَمام تجنيد الجنود المسرّحين من وحدات النخبة في الجيش الإسرائيلي، بالذات من سلاح المشاة. وتشترط "يَمام" في المتقدمين بشكل مبدأي أن يكونوا قد أنهوا على الأقل، دورة المستوى الثامن في الرماية. بيد أن هذا مجرد اشتراط أولي. فاختبارات القبول في "يَمام" بلغت حدًّا قيل فيه بأنه وفي العام 2007 نجح 7 من أصل 800 مرشّح في اجتياز اختبارات القبول. ويخضع المقبولون في الوحدة إلى تدريبات مكثفة، مستقلة، وخاصة بهذه الفرقة.
يشبه عمل "يَمام" عمل فرقة SWAT الأميركية. وهي، وإن كان الهدف من إنشائها في بداية الأمر، التدخل السريع في حالات الخطف [شاركت الفرقة في تحرير رهائن باص ديمونة، خط ثلاثمئة الذي قام فيه ثلاثة فدائيون من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من غزة بخطف باص يقل عاملين في مفاعل ديمونة النووي، وهم الذين كتب عنهم الشاعر إبراهيم نصر الله ديوانه "الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق] ، فقد تحول عمل الفرقة إلى عمليات الاغتيال والمداهمة داخل أراضي الضفة الغربية، حيث لا رهائن. وقد تخصصت "يَمام" في عمليات عزل، ومن ثم قتل المطلوبين المتحصنين داخل المساحات المبنية.
عن البطولة.. عن النذالة
قبل أن نسارع إلى الاقتناع بالسمات الأسطورية التي تسبغ على هذه الوحدة، ينبغي علينا أن نتذكر بأنها وحدة إعدام. ما من بطولة في عمليات فرق الإعدام في العصر الحديث. هذه الفرق تعمل وهي مغطّاة تماما عسكريا. لننظر إلى عملية اغتيال الشهيد محمد الفقيه، مثلا، الذي اغتالته "يَمام" في قرية صوريف في تموز 2016. لقد شارك الطيران في تغطية عمل الفرقة، واحتلت فرق المشاة مفارق البلدة لتوفر الحماية لفرقة الإعدام، ولتعزل تماما منطقة الاشتباك عن البيئة المحيطة. وتم قصف المنزل، ورغم هذا كلّه: اشتبك الفقيه ببندقية كلاشنكوف وحيدة مع جنود "يَمام" طيلة سبعة ساعات. إلى أن فرغت ذخيرته. [لاحقا، جاور جثمان الفقيه، الذي لا يزال محتجزا في الثلاجات الإسرائيلية، جثمان الشهيد باسل الأعرج، طيلة أيام احتجاز جثمان باسل في الثلاجة، ولا يزال جثمان الفقيه مسجونا في قالب ثلج، مع آخرين من أصدقاء باسل]
ننتقل من صوريف إلى جنين، إلى حيث تنسب عملية اغتيال الشهيد حمزة أبو الهيجاء إلى وحدة "يَمام" أيضا. لقد قاتلهم حمزة حتى فرغت ذخيرته، ثم استشهد.
في أيلول 1990، على أطراف قرية عنزة، قرب جنين، اشتبك الشهيد عصام براهمة، القائد العسكري في حركة الجهاد الإسلامي، مع فرقة "يَمام" وقد قاتل ختى فرغت ذخيرته. تم هدم المنزل على براهمة، وخرج من تحت الأنقاض ليفرغ رصاصاته الأخيرة فيهم (ويقول الجيش الإسرائيلي بأن ضابطا إسمه موشيه يعلون، هو من أطلق صواريخ لاو والقنابل اليدوية تجاه براهمة بعد أن فرغت ذخيرة الأخير. لقد صار يعلون بعد ذلك بسنوات، وزيرا للدفاع تحت إمرة نتنياهو)
ما هو المشترك في هذه العمليات أعلاه؟ إنه إنتهاء ذخائر المقاومين . في حالة صوريف، تم استنزاف ذخائر الشهيد الفقيه على امتداد سبعة ساعات. وفي حالة الشهيد عصام براهمة دام الاشتباك طيلة تسعة ساعات. إن اليَمام، تشتبك بالمطلوب المحاصر بعد أن تستفرد به تماما، مستندة إلى الغطاء الجوي، والعزل البرّي الذي توفره لها فرق المشاة في القطاع المستهدف. وبعد أن تفرغ ذخيرة المطلوب ، تقوم بإعدامه، إما بالقذائف أو بإطلاق الرصاص
تكتيك ثان، مفرط هو الآخر في الشجاعة، يميّز عمل "يَمام". إنه تكتيك "طنجرة الضغط". يستخدم هذا التكتيك في حالات محاصرة المطلوب داخل منزل. يتم في البداية إطلاق صواريخ لاو، مضادة للدروع، عبر فتحات النوافذ، ومن ثم إلقاء القنابل اليدوية إلى داخله مترافقة مع إطلاق النار الغزير. فإن لم يستسلم المحاصر، يتم استدعاء الدروع (دبابة للقصف، أو جرّأفة مدرّعة لهدم المنزل، قطعة قطعة على رأس من فيه).
صورة كشف عنها جهاز الشرطة الإسرائيلي على صفحة الفيسبوك الرسمية الخاصة به ، تظهر فرقة الإعدام في طريقها إلى منزل باسل الأعرج ليلة تصفيته.
الجندي الثاني في الصف اليساري يحمل بندقية SR-25 والجندي المتقدم يحمل بندقية M4 وهي بنادق مخصصة للعمل داخل المناطق المبنية. يرتدي الجنود بالطبع خوذات وصديريات واقية من الرصاص. وباسل يرتدي بيجامته.
ذراع باسل الهزيلة
حاصرتني هذه الفكرة أثناء جنازة باسل. لم أجرؤ على النظر إلى جثمانه. . لكن عيني اصطدمت به أخيرا، كانت ذراعه قد ظهرت من تحت العلم، ملفوفة بالشاش. في تلك اللحظة سيطرت علي الفكرة التالية حين رأيت ذراعه الهزيلة.. كانت ذراعه، كما نعرفها جميعا لا تقترب مقدار أنملة مما تبدو عليه أذرع المقاتلين. بهذه الذراع الهزيلة واجه، على الأقل، تسعة قتلة محترفين متجمّعين في منزله.
قبلذاك، كان باسل قد اختار مربّع معركته الأخيرة: علّية ضيقة وضع فيها الكارلوغوستاف، واشتباك في الحيز الأوسع باستخدام بندقية الـ M16. على مدار ساعتين لم يفقد فيهما لا شجاعته ولا أعصابه، اشتبك باسل مع تسعة من القتلة. وفّر رصاصاته جيدا، وحين فرغ مخزن الـM16 صعد إلى المربع الأخير، بانتظار إفراغ مخزن الكارلو .
واحدة من مساوئ بندقية الكارلو غوستاف الكثيرة هي عدم القدرة على التحكم بها. غالبية هذه البنادق، حين تضغط على الزناد، تظل تطلق النار حتى يفرغ المخزن. ولذا، فقد اختار الشاب أن يضع هذه البندقية في المربع الأخير، حيث قرر الاستشهاد بعد الاشتباك من مسافة صفر.
لنتأمل هذا المشهد: هنالك شاب في الثلاثينيات من عمره، فلّاح، صيدلي، لم تتح له فرصة إطلاق الرصاص بالمرة في حياته على الأغلب، ولديه بندقيتان : واحدة من طراز إم 16 والثانية من طراز كارلو غوستاف، محاصر في منزل. حين حصل هذا الشاب على السلاح فإنه، وفق الظن، لم تتح له تجربة إطلاق النار من قبل. فهو في مدينة محاصرة بالمستوطنات ونقاط المراقبة، ومليئة بكلاب الحراسة ممن يتحدثون بالعربية ويضعون نسورا على أكتافهم. وهو في تلك المرحلة، واحد من أهم المطلوبين في الضفة الغربية. ليس لهذا الشاب تنظيم يحميه، وفي إثره كلاب أثر من شتّى الأعراق والمنابت (وكلّها منابت واطئة، كما هو واضح). فأين سيتدرب على الاشتباك؟ ورغم هذا: فإن الاشتباك على بعد دقائق منه في هذا الليل.
في ذلك الفجر، حلّقت في سماء رام الله طائرة استطلاع واحدة على الأقل، وكما يحدث في هذه العمليات، فإن وحدة قيادة الشاباك في مركز فلسطين المحتلة 48 تمتلئ بالضباط الكبار الذين يشرفون على تنفيذ العملية. [على سبيل المثال، نقل أمير بوحبوط، محرر الشؤون الأمنية في موقع والا News الإسرائيلي مشهدا كهذا لدى قيام وحدة "يَمام" بتصفية محمد الفقيه في صوريف قبل بضعة شهور]
عودة إلى داخل المنزل
في العتمة، في البيت المحاصر، تعرّض أية حركة تندّ عن باسل إلى انكشاف موقعه. إن أي خلل في الـM16 في هذه اللحظات سيصاحبه ارتباك كبير. فالذي لم يستعمل البندقية قط، أو على الأقل لم يتدرب عليها بما يكفي، قد تواجهه مشكلة في سحب الأقسام، في أن تعلق رصاصة في بيت النار.. ناهيك عن احتمال تفخيخ الذخائر: إن رصاصة واحدة عالقة في بيت النار ستحيّد السلاح كاملا، ولن يتمكن، في ظل هذا الارتباك كلّه من التفكير، ميكانيكيا، فيما يتوجب فعله. إن أية عملية تتمثل في إفراغ بيت النار، أو تفحص السبطانة حتى لا تكون رصاصة مفخخة عالقة فيها (عادة ما يقوم الإسرائيليون بزرع رصاص ذي مقذوف حديدي ثقيل في الذخائر المهربة إلى الضفة. وأثناء إطلاق النار، يتباطأ المقذوف الحديدي، بفعل الثقل ليلحق به مقذوف آخر ويذوب مغلقا أنبوب الغاز. ضغط الهواء المتولّد بين المقذوفين سيفجر السبطانة في وجهه) . هي الآن فيزياء معقدة، لا تناسب اللحظة الأخيرة للصعود.
نعود لنلقي النظر خارجا
ثلاثة دوائر تحاصر المنزل: طائرة استطلاع لكشف المحاور الأساسية، قنّاصة، فرقة من المشاة تستلم المحاور لحماية قلب الدائرة التي يتحرك فيها تسعة مقاتلين مدربين من وحدة اليَمام بحرّية مطلقة. هؤلاء ليسوا مقاتلين فحسب، بل قتلة. تاريخهم الطويل يشهد بأن استخدام البندقية قد تحول إلى جزء طبيعي من ردود فعلهم. هؤلاء مدربون على القتل، وفي مواجهتهم شاب واحد، هزيل البدن، ويعاني من مشكلة في الرؤية، إسمه باسل الأعرج
(على البُعد، بحسب الشهود العيان، كان شرطي فلسطينيّ يقف على مدخل نقطة الشرطة ويدخّن بتوتر شديد، ويحاول النظر إلى جهة الاشتباك، وسلاحه في داخل المقر. قاتل الله الفضول بالطبع، وكفى الله السلطة شرّ القتال) حاولت مجموعة من الشبان اختراق الحصار لكنها اصطدمت بالدائرة الأولى من الحماية، وتم إطلاق الرصاص الحي على الشبان ما أدى إلى إصابة إثنين منهم. (أنهى الشرطي الفلسطيني سيجارته، وعاد إلى داخل نقطته الأمنية. وللتذكير: بابا بطل، وأبوي أشرف منكم كلكم)
لن يعلم أحد ما الذي فكّر به باسل. لكننا، نعرف جيدا أنه لم يتراجع ملمترا واحدا عن قراره: لقد قرر الاستشهاد. لن نعلم إن كان باسل على قيد الحياة والوعي أثناء سحبه من العلّية وإلقائه إلى الأرض، ومن ثم جرّه نحو الدورية التي اختطفته، ما نعلمه هو أن أحد هؤلاء القتلة قد أطلق نحوه، وهو متحصّن في العلية، قذيفة متشظّية من عيار 40 ملمتر، باستخدام قاذف M-203. القذيفة تحمل في مقدمتها حشوة بارود مضغوط فيها عشرين كريّة معدنية صغيرة، مضادة للأفراد وهي مخصصة للاشتباك في المناطق المغلقة.
لو نظرنا إلى المشهد من عل، من ارتفاع تقوم فيه طائرة الاستطلاع الإسرائيلية بتصوير مربع الاشتباك، سنلاحظ أن مجموعة من القتلة تجر جسدا هزيلا من على سلالم المنزل، على أتربة الرصيف، نحو أرضية السيارة التي تم اختطافه فيها. لعله ظل ينزف على أرضية السيارة إلى أن وصل إلى قاعدة لواء "كفير" . لا أحد يعلم في تلك الأثناء أين تم وضع جثمان باسل وهو ينزف، إلى أن تأتي سيارة إسعاف لتحمله إلى الثلاجة التي تبعد مسافة ساعة سفر في تلك الظروف عن القاعدة العسكرية.
لا أحد يعلم إن كانت عيناك قد ظلتا مفتوحتان في تلك الليلة، نحو السماء، يا باسل. لا أحد يعلم ما هي الأفكار الأخيرة التي مرّت في رأسك، وصارت تبهت شيئا فشيئا إلى أن ذابت الحواس وسادت الظلمة كل شيء. ما نعلمه يا باسل هو أنك واصلت التقدّم نحو من قتلوك، وأن من قتلوك قد عادوا إلى منازلهم، وقبلوا زوجاتهم وناموا. (لا بد أن زوجاتهم يعتقدن بأنهم أبطال).. ما نعلمه هو أن ذلك الشرطي الفلسطيني الفضولي، شعر بالعجز تماما، (والمعروف تماما أن فيزونات الصبايا المدخّنات تشعرهم بالعجز). وأن هنالك الكثير من أعمدة الكهرباء في رام الله.