فجر الاثنين السادس من آذار/ مارس استشهد باسل الأعرج في قلب مدينة رام الله، كانت الرصاصة التي قتلته تبحث عنه هو تحديدا، في السّدّة التي اعتلاها في البيت الذي خصصه لاختفائه بعد خروجه هو ورفاقه من السجن لدى السلطة الفلسطينية، وبينما اعتقل رفاقه لدى الاحتلال، استمر باسل يروي حكاية الاختفاء بوجوده الكامل.
بعد قتال، استشهد باسل، قيل إنه قاتل ببندقية كارلو مُصنّعة محليًّا، وببندقية M16 التي يحمل مثلها جنود العدو، لم يكن يحمل الكلاشنكوف، سلاح الثوار الأثير، ولكنه كان يستره –كي تكتمل الحكاية- ضميرًا في قلب رواية المقاومين التي يحكيها بوجوده الكامل.
بدأت حكاية المقاومين المسلحين داخل الأرض المحتلة في الجزء الأخير من الانتفاضة الأولى ببنادق الكارلو، وأعينهم على بنادق الـ M16، وفي الطريق حملوا الكلاشنكوف، مثل كلّ ثوار الأرض، واليوم في الهبّة الممتدة منذ تشرين أول/ أكتوبر من العام 2015، والمقاومون الفرادى يعيدون فتح الطريق بالكارلو، وباسل يختصر الحكاية وما تضمر بوجوده الكامل!
في تموز/ يوليو من العام الماضي، استشهد محمد الفقيه في بلدة صوريف شمال الخليل، في اشتباك جاء بعد اختفاء، وبعد أقل من عام يعيد باسل رواية الحكاية؛ رواية الاختفاء الذي يتلوه اشتباك فتبزغ فيه الشهادة؛ الحكاية الفلسطينية التي لا يتبدد سحرها أبدا؛ الحكاية العزيزة، التي لا يرويها أي أحد في زمن الندرة والشحّ، فتنتخب لها أمثال محمد وباسل، يرونها بوجودهم الكامل.
حكّاء، الوصف الأجمل والأدق الذي أطلقه أحدهم على باسل، وقد كان كذلك، يطوي على حكاياتنا الفلسطينية، فتنثال حكايات جدّاتنا، وأيام أجدادنا، على لسانه، مثل الشلال، بكلمات فلسطينية خالصة، مشبّعة بلكنته القروية الجميلة، والضرورية أصالة، بلا تكلف، للحكاية الحيّة، بلكنته التي لم يفسدها شيء، كما أن خياره لم يفسده شيء. وكأن الأصيل لا يكون إلا كاملاً، والطبيعي لا يكون إلا أصيلاً!
يحفظ باسل الحكايات التي هدهدتنا بها أمهاتنا، وتلك التي تداولها أجدادنا، وحكايا كل قرية من قرانا، يعرفها قرية قرية، وحكاية حكاية، ويعرف حكاية كل مقاوم، وروايات المقاومة الكبرى؛ الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 – 1939، والثورة الفلسطينية المعاصرة، والانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية، وحكايات المتفردين في قلب الروايات الكبرى، وحكايات المتفردين الذين وصلوا بين الروايات الكبرى.
كان يقاوم برواية تلك الحكايات، ثم يلقي بوجوده الكامل في قلب المحاولة، فكان واحدا من رموز الحراك الشبابي، وواحدا من فرسان الهبّة الجارية، وبين هذا وذاك يروي، ويضع الدراسات حول المقاومة والانتفاضة، حتى اختار أن يكمل روايته الشخصية، الذاتية، بأن يتماهى تماما مع كل ما قاله، وأن يجسد بحكايته الخاصة الروايات الكبرى كلّها.
كتب باسل ذات مرة يرفض أسطرة الشهيد يحيى عياش، المقاتل الأكثر سحرًا في تاريخ الفلسطينيين، أراد أن يقول إن المقاومة متاحة لأي أحد، وإنما الميزة في الإرادة فحسب، وعلى الأرجح فإنه سيرفض تمييزه بشيء إضافي فوق عادي، وإذا كان وصفه بالمثقف سيضفي عليه بما هو مقاوم تلك الإضافة المميزة التي تحجب المقاومة عن غير المتمتعين بوصف المثقف؛ فإنه سيرفضها.
باسل باختصار امتلك الإرادة، وهذه الإرادة لا تتأسس إلا على الصدق، صدق الإيمان، وهي بدورها لا بد وأن تنبثق عنها المبادرة، وهو كان صادقا ومبادرا، وبلغة الثوريين طليعيّا، فعل ما قال ونظّر له ودعا إليه، وغالبا لم ينشغل بتقريع المتخلفين، فالطليعي قوام بالواجب، ولا ينظر للخلف، ولا يرى أنه متفضل بطليعيته، ثمة نزعة صوفية هنا لا بد منها كي تكتمل الإرادة، وتكتمل الحكاية، ولا ينتقص منها عتبُ المحبّ إن ظهر.
"اشتباك" مثقف ما مع الواقع، وانغماسه في التجربة، وتركيز أطروحته على سؤال الوقت والواقع، إلى درجة الاختفاء والاشتباك المسلح؛ قد يبدو فريدا ومفاجئا بالنظر إلى ما انطبع عن انفكاك المثقفين عن الممارسة، أو اشتغالهم النظري بغير واجب الوقت وضرورات الواقع، أو انعزالهم عن التجربة، بل وتعاليهم الفج بمعرفتهم النظرية غير المجربة تلك!.
بيد أن الإشكال في تصور المعرفة أساسا، إذ ثمة معرفة "تنبت خارج المدونات وغرف الدرس الأكاديمي والنشاط الثقافي الكلاسيكي" كما سبق وقلتُ في مقالة قديمة، من ذلك المعرفة التي ينتجها المطارد، بشقيها القابل للتدوين وغير القابل للتدوين، ومثلها التي ينتجها حافر النفق، والكامن في قلبه، والمرابط على الثغر، والقائم على الإعداد.
وفضلا عن المعرفة العملية التي تنتجها التجربة، يمكنك أن تتخيل المعرفة الوجدانية الهائلة، وهذه الأخيرة معرفة خاصّة، أعظمها لحظة اليقين المتحقق في الانعتاق، تماما كما قال باسل في الوصية المنسوبة إليه، إذ وجد الإجابة على أسئلة الشهادة، ولم يجد نفسه ملزما بنقلها للباقين من خلفه، والأدق أنه لا يمكنه نقلها، لأنها لا تتحقق إلا بدخول التجربة والصبر عليها.
كل مقاوم عارف، وباسل كان كأي مقاوم، إذ امتلك الشرط الطبيعي لذلك، الإرادة وما تنبني عليه وما ينبثق عنها، وقد وصل لما أفنى كل العارفين أعمارهم لأجله، لأعظم الأسئلة الوجودية.. إنها الإرادة وحدها، التي تدخل بطالب المعرفة بابها المضني هذا، وهي وحدها التي تصل بصاحبها غاية المعرفة.
أما باسل المثقف، فقد تميز عن المثقفين، لا عن بقية المقاومين، وذلك لأن ثقافته التي حصّلها هي تلك التي تفيد وعيه المقاوم، على نحو يذكّرني بذلك البائع الإفريقي المتجول على عربة يدوية في شوارع باريس، وبالرغم من أنه لا يحسن القراءة والكتابة وجد علي شريعتي نفسه يتعلم منه.
يقول عنه شريعتي: "كان لا يعرف الكتابة، ولكنه كان يتكلم بصورة بحيث أنا الذي قضيت عمري في الأمور الفكرية والعلمية والاجتماعية كنت أستفيد منه فكريا. كان مسلما من نوع خاص. كانت الآيات القرآنية التي يحفظها كلها تفيد معرفته الاجتماعية.
الأشياء التي كان تعلمها من التاريخ هي تلك التي تفيد وعيه الاجتماعي. وكذلك الشخصيات التي كان يعرفها من العالم كانت من أولئك الذين يفيدون في عمله، أي يعطونه الوعي والاعتبار. كان يحلل أمور الدنيا ويعرف البلدان بلدا بلدا بشكل يثير الإعجاب".
أما باسل، فكان يقرأ ويكتب، لكنه كان يقرأ ما يفيد وعيه المقاوم، وكان يحكي ما يفيد وعي شعبه المقاوم، ثم قرر أخيرا، أن يحكي بوجوده كله مرتين، مرة لما اختفى، ومرة لما قاتل.. ثم انعتق، وعَرَف.