تركيا - قدس الإخبارية: فتح إذن عنصر الحراسات الخاصة التركي، مولود مرت آلتنتاش (22 عامًا) النار على السفير الروسي في أنقرة، خلال وقوفه لإلقاء كلمة من على منصة أحد المعارض الفنية، ليُصيبه بكل سهولة، ويفرغ في جسده 5 رصاصات أخرى لضمان مقتله.
الكاميرات التي كانت منصوبة لالتقاط كلمة السفير، نقلت لنا لحظاته الأخيرة مع قاتله، الذي ردّد بلغة عربية ثقيلة شيئًا من كليشيهات السلفية الجهادية حين قال: «نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد» وتابع باللغة التركية، مخاطبًا الروس على ما يبدو: «ما دام إخوتنا لا يشعرون بالأمن، فلن تتذوقوا طعمه»، «لا تنسوا سوريا، لا تنسوا حلب، كل من له مساهمة في هذا الظلم سيدفع الثمن».
بعد دقائق معدودة من الحادثة التي بدأت فجأة وانتهت سريعًا، تم إعلان مقتل السفير الروسي، وكذلك المهاجم، لتنفتح الأسئلة على دوافع هذه العملية وخلفية منفذها وارتباطاته، إلى جانب تأثيراتها المتوقعة على مستقبل العلاقات التركية الروسية التي تعافت للتو من منعطف شديد الحرج.
فمنذ إسقاط تركيا للطائرة الروسية فوق سوريا في 24 نوفمبر/تشرين ثاني 2015، تم قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ودخلت العلاقات نفقًا مظلمًا كانت فاتورته باهظة الثمن في ميزان السياسة والاقتصاد التركي، فالأخيرة وجدت نفسها خارج الملف السوري تمامًا مع سيطرة روسيا على الأجواء السورية بالتوازي مع زيادة تقدم المليشيات الكردية على حدودها الجنوبية، كما شعرت بالتهديد في ملف أمن الطاقة، ولمست التراجع الاقتصادي في سوقي المنتجات الغذائية والسياحة التي تلعب فيه روسيا دورًا حيويًا.
لكن محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو سرّعت من تحقيق تركيا للشروط الروسية لإعادة تطبيع العلاقات، وهذا ما تمّ تتويجه بزيارة قام بها الرئيس أردوغان إلى موسكو، وكانت أول زيارة خارجية يقوم بها الرئيس التركي بعد محاولة الانقلاب.
بين إسقاط الطائرة واغتيال السفير في ميزان الثقل الأمني والسياسي، نلحظ أن خسارة اغتيال السفير الروسي «أندريه كارلوف» أكبر بكثير من خسارة إسقاط طائرة الـ سوخوي-24، وللمفارقة هنا فإن إسقاط الطائرة قاد إلى قطيعة سياسية واقتصادية بين البلدين خلال أقل من 48 ساعة، بينما لا يبدو أن حادثة اغتيال السفير الروسي ستقود لقطيعة أو حتى تراجع حادّ في العلاقات.
ويمكن هنا دعم هذه الفرضية بالأسباب التالية:
أولًا: قيّمت روسيا إسقاط طائرتها بصاروخ من سلاح الجو التركي كسلوك يعكس الارادة السياسية لأنقرة، فيما لا يمكن أن يتطابق التقييم ذاته في حالة الاغتيال التي نفّذها عنصر بسيط في الشرطة، لا سيما وأن تركيا حرصت على التأكيد على ارتباط المنفذ بجماعة فتح الله غولن، عبر تصدير رواية دراسته في ثانوية تابعة للتنظيم، الذي يعدّ اليوم العدو السياسي الأول للدولة التركية والمتهم بتنفيذ محاولة الانقلاب الفاشل.
ثانيًا: توقيت الحدثين؛ إذ جاء إسقاط الطائرة في وقت كانت تعيش فيه علاقات البلدين حالة توتر وتحريض متبادل على خلفية تناقض الرؤى في الملف السوري، بينما جاءت حادثة الاغتيال في أوج تقارب البلدين على كافة الأصعدة؛ بما فيها الملف الأكثر تعقيدًا وهو الأزمة السورية، فمنذ تطبيع العلاقات في أغسطس/يوليو الماضي، خطت تركيا عدة خطوات للوراء لتضبط إيقاعها السياسي مع موسكو، واضطر أردوغان للتراجع عن تصريحات سابقة قال فيها أن تركيا دخلت سوريا ضمن عملية درع الفرات لإنهاء حكم الأسد، وأكّد على أن هدف تركيا من دخول سوريا «هو ليس دولة أو شخصية معينة، بل هو محاربة التنظيمات الارهابية»، إلى جانب التوافق الضمني بين البلدين على تفريغ حلب من المعارضة السورية والسكان المحليين المناوئين للأسد.
ثالثًا: ازدياد الضغوط الغربية والعزلة السياسية حول كل من موسكو وأنقرة، حيث ضاعفت الأزمة الإنسانية في حلب الضغوط الغربية على روسيا، كما أدى تراجع علاقات تركيا مع كل من الولايات المتحدة وأوروبا إلى إدراك السياسيين الأتراك والروس لحاجة البلدين لبعضهما، وهي لعبة قديمة جديدة تمارسها موسكو في استقطاب دول الإقليم إلى جوارها نكاية بالمعسكر الغربي، وبدأت تركيا ممارستها اليوم بالتقارب مع روسيا وعيونها على الكعكة الغربية الضائعة.
رابعًا: اقتراب روسيا من قطف ثمرة سياسة الأرض المحروقة التي مارستها في حلب، وتحضيرها منذ أيام لوساطة للحل السياسي في سوريا بين النظام والمعارضة في كازاخستان، تكون بديلة عن الجهود الغربية التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف منذ عام 2012، حيث تطمح موسكو لعقدها قبل استئناف جلسات جنيف المزمعة في فبراير/شباط القادم.
ومن الواضح هنا أن كل هذه الأسباب ساهمت في امتصاص البلدين لصدمة عملية الاغتيال، حيث أكدتا في تصريحاتهما الأولية على تفويت فرصة الوقيعة بين الجانبين، وشدد كل من أردوغان وبوتين على كون المستهدف من العملية ليس السفير الروسي وحسب إنما ضرب علاقة البلدين.
كما حرص وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو على تقديم مؤتمره الصحفي من العاصمة موسكو بعد ساعات قليلة من عملية الاغتيال، حيث أكّد هو ومسؤولون روس على أن اللقاء الثلاثي بين وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران حول سوريا، والمزمع عقده في اليوم التالي لعملية الاغتيال ما زال قائمًا في موعده المحدد.
ومما لا شك به أن وقوع عملية الاغتيال على الأراضي التركية سيزعزع من أوراق قوة تركيا في جلسة 20 ديسمبر/كانون الأول مع المسؤولين الروس والإيرانيين، إلاّ أن الحرص الروسي على عقد الجلسة، وربما المضي قدمًا نحو مباحثات كازاخستان يشي بأن حرج الموقف الروسي في معركة كسر العظم مع الغرب ستدفع موسكو للعض على جراحها.
ختامًا، تلقى نظرية المؤامرة والاستهداف الخارجي من قبل القوى الغربية والإمبريالية قبولًا ورواجًا في أدبيات السياسيين الأتراك والروس على السواء، ويبدو أن هذه السمة قد تتحول اليوم من كونها مثلبة لتصبح بوابة عبور آمنة تحمل علاقات البلدين إلى شاطئ آمن يضمن ألا تتدهور علاقات البلدين على وقع عملية اغتيال السفير.
المصدر: إضاءات