شبكة قدس الإخبارية

الحرائق تنهي الدور الاستعماري للأشجار في فلسطين

هيئة التحرير

في المؤتمر الصهيوني الخامس الذي عقد عام 1901 في بازل في سويسرا، صدر القرار بإقامة “الصندوق القومي لإسرائيل” وحددت وظيفته كمؤسسة مسؤولة عن شراء أراضي في فلسطين “باسم الشعب اليهودي ولصالحه”.

“الصندوق القومي لإسرائيل” – أو ما يسمى بالعبرية “كيرن كاييمت ليسرائيل – كاكال”، مسؤول اليوم عن مساحة تقدر بمليون ونصف دونم من أراضي فلسطين تُغطي أغلبها الغابات والأشجار، وقام الصندوق منذ إنشائه عام 1909 وحتى اليوم، بزراعة ما يقارب 240 مليون شجرة ونبتة على مساحة تقدر ب 920 ألف دونم من المليون ونصف.

أهم شجرة تمت زراعتها من الحركة الصهيونية هي شجرة الكينيا ( الأكيلبتوس)، غُرست بشكل خاص في الأراضي الساحلية الوديان، وفي مناطق جنوب فلسطين في النقب، واستخدمت كوسيلة في استصلاح الأراضي السبخيّة والمستنقعات، في منطقة الحولة ومرج ابن عامر. وفي الجبال غُرست الصنوبريات والإبريات ( ذوات الأوراق الإبرية) والتي تلائم مناخ البحر الأبيض المتوسط.

في هذا النص تعريف سريع بمشروع التشجير الذي قادته هذه المؤسسة الصهيونية.

بدأت عمليات التشجير الاستعماري على يد الحركة الصهيونية في فلسطين في أواخر الفترة العثمانية. وكان الدافع لعملية التشجير الأولى هو تجفيف المستنقعات في منطقة “الخضيرة” المقامة على أراضي كل من قيساريا، باقة الغربية وقرى مهجرة مثل قرية السريس.

لاحقاً،شكلت عمليات التشجير هذه مساهمة اقتصادية للـ”يشوف”، تمثلت في استغلال الحطب كوقود والبناء وأهداف أخرى. كانت الغابة في “الخضيرة” أول غابة صهيونية ذات مردود اقتصادي، وهي بمبادرة البارون “روتشيلد”. لكن بعدما تبين أن شجر “الإكليبتوس” – أو الكينيا – يفشل في مهمته تجفيف المستنقعات توقفت زراعته في مناطق المستنقعات.

فيما بعد توجهت الحركة الصهيونية لزراعة أشجار من نوع آخر في “غابة هرتسل” ، والتي زرعت بـ 12 ألف شتلة زيتون بالإضافة إلى العنب، المشمش واللوز. وتم اختيار الأرض في حينه بالنظر إلى كمية الأراضي القليلة التي كانت بحوزة الحركة الصهيونية حينها، وذلك عام 1909، وكانت مساحتها تقارب 2000 دونم، إلا أنه بعد الفحص تبين أن أشجار الزيتون غير ملائمة لتربة تلك الأراضي، فتم نقل الفكرة إلى غابات “بن شيمن”، وتمت زراعة الأشجار هناك. فشلت أغلب محاولات “الصندوق القومي لإسرائيل” في زراعة أشجار الزيتون لأسباب مالية وبيئية.

وفي العام 1911 طلب رئيس الصندوق القومي “بودنهييمر” من الصندوق أن يغير سياسته ويركز على زراعة الأشجار الحرجيّة. بعدها بعامين بدأت العملية الثانية لزراعة الغابات، وذلك بتمويل من يهود ألمانيا، على أراضٍ قريبة من طبريا.

تتلخص المرحلة الثانية (بعد الفشل بزراعة الزيتون)  بزراعة قرابة الـ 6 ملايين شتلة على مساحة تقترب من الـ 25 ألف دونم، لكن كمية الأشتال التالفة في تلك المرحلة، وصلت إلى 2.7 مليون شتلة، وذلك لعدم انسجام الأشتال مع البيئة وعدم استصلاح محصولها التي صممت لمساعدة ودعم “اليشوف”. لاحقًا، تحول قسم من الغابات الإستعمارية إلى مناطق خضراء سُميت “بالمحميات الطبيعية” وتستعمل اليوم للتنزه والتجوال في الطبيعة.

في فترة الإنتداب البريطاني في فلسطين، وذلك عام 1919، انطلقت عمليات التشجير الصهيونية  في مناطق مختلفة من فلسطين، ووصلت نسبة النجاح في عمليات التشجير حتى 67.5%. لكن الفلسطينيين قاموا بقطع العديد من أشجار الكينيا حينها.

وقد تمّ في نفس الفترة بناء مشاتل صغيرة تقوم بعمليات الإنبات وتحضير الأشتال. واهتم البريطانيون بتشجير الجبال، فغُرست فيها الصنوبريات والإبريات، والتي تتلائم وطبيعة الشجر الأوروبي لكي يسهل على الجنود البريطانيين التعامل مع الطبيعة بأريحية أكبر. تعتبر الصنوبريات من الأشتال التي تحتوي على درجة حامضية PH عالية، تفرزها في الأرض ضمن الإفرازات الصمغية وهي بدورها تشكل بيئة معادية للنباتات الأصليّة، وتساهم في تغيير المشهد البيئي في أرض فلسطين.

بالإضافة إلى ذلك، فقد اهتم البريطانيون والصهاينة بزراعة الصنوبريات في أعالي الجبال، وذلك رغبة منهم بنشر الصنوبريات في الجبال والمنطقة القريبة، كون الصنوبريات نبات تتطاير حبوب لقاحه بكثرة. في هذه الفترة ازداد الوجود اليهودي الاستيطاني في فلسطين، كما ازدادت معه بشكل مطّرد عمليات التشجير، ومن بين الغابات الكبيرة التي أقيمت هذه الفترة والتي تفوق مساحتها الألف دونم هي غابة حطين المقامة على أراضي قرية حطين وأقيمت عام 1926، وغابة “جنيجر” عام 1928 وغابة “ساريد” عام 1930 وغابة “كفار هحورش” على جبل طابور قرب مدينة الناصرة التي أقيمت عام 1931.

سعى الانتداب البريطاني من خلال عمليات التشجير إلى تثبيت ملكية اليهود على الأرض، إلا أنه ساهم كذلك في دعم “اليشوف” اقتصادياً أكثر بكثير من قضية الملكية. وساهمت سلطات الانتداب البريطاني في بناء سياسات التشجير داخل الحركة الصهيونية وساعدتها على تطوير أساليب وأدوات الزراعة. في هذه الفترة ما بين 1930 – 1940 وهي الفترة التي تضاعف فيها الاستيطان اليهودي ثلاثة أضعاف وكذلك حجم الغابات. تمت زراعة قرابة الـ 20 مليون شتلة على مساحة تصل إلى 54 ألف دونم. وفي هذه الفترة ضجّت الحركة الصهيونية من أعمال الحرق للغابات على يد الفلسطينيين، حيث تعامل اًصحاب الأرض مع الغابات كعدو وكخطر استراتيجي وبيئي يهدد وجودهم المادي في القرى وعلى الطبيعة وعلى الأرض.

في ترويجها لهذا المشروع الضخم، تقول الحركة الصهيونية بأنّ قادتها عندما زاروا فلسطين أول مرة لفحص إمكانية إقامة مشروعهم الصهيوني عليها، وَجدوها  “أرض مقفرة قاحلة لا ظل فيها”، فكان من ضمن مشروعهم أن يقوموا بتشجيرها.

وهذه الدعاية الاستعمارية تخفي وراءها أهدافاً كبرى، تخدم المشروع الصهيوني الاستيطاني، فقد كان من أهداف مشروع التشجير الضخم هذا  حماية الأراضي الجديدة التي تم شراؤها بالتآمر أو الاحتيال من العرب والفلسطينيين لعدم تركها خالية، مما قد يهدد باستردادها من قبل أصحابها الأصليين، وخاصة تلك التي لم تكن  فيها إمكانية لاستيطانها المستوطنين الجدد القادمين من أوروبا، أو الشروع في زراعتها، فتم تشجيرها للحفاظ عليها.

وفي بعض الأحيان لم يتم تشجير منطقة بكاملها، وإنما استخدم التشجير كنوع من رسم الحدود حول الأراضي التي انتقلت لملكية الحركة الصهيونية بطريقة أو بأخرى.

وفي أحيان أخرى، كانت عملية التشجير فرصة لإيجاد فرص عمل للمستوطنين الجدد، عن طريق تشغيلهم في حراسة الغابات المُستحدثة، أو إقامة مشاتل صغيرة بالقرب من الغابات وتشغيلهم في العناية بها وزراعتها.

ولا يمكن فهم هذا المشروع الضخم بمعزل عن طبيعة وهويّة المشروع الصهيوني، فإن الأشجار التي جلبت من أوروبا وغطت جبال وأراضي فلسطين من شمالها إلى جنوبها، هي أشجار غريبة عن الطبيعة البيئية لفلسطين، وليست “أشجارا بنت بيئتها” الأصلية.

ويمكن فهم مشروع الغابة الاستعمارية هذا، بالنظر إلى أن المشاريع الاستيطانية لا تقتصر على إحلال المستوطنين مكان أهل البلاد فقط، وإنما يترافق معها عمليات واسعة للسيطرة على المكان. وفي خضم هذه العملية يتم تحويل كل مناحي الحياة إلى أسلحة في المعركة ضد أهل البلاد، فيتم تغيير الطبيعة وإعادة تعريفها ، أو الادعاء بالحفاظ عليها، كوسيلة لحرمان أهل البلاد من الأرض، ويتم غرس الأشجار الغريبة لإخفاء معالم الوجود السابق لأهل البلاد. ومن مآسي فلسطين وتناقضاتها، أن الأرض بعد الحريق تكشف عن ما طمره الاستعمار تحت الطبقة الخضراء، فتتبدى تفاصيل وآثار البلاد التي غيّبها الأخضر الدخيل على خلفية سوداء متفحمة.

في يوم ما في بداية مشروع التشجير الاستعماري في فلسطين، قال رئيس قسم الأحراج في الصندوق القومي الصهيوني:

” الأشجار هي أفضل مَن يحرس الأرض ويحافظ عليها”

وفي الانتفاضة الأولى تغنّى الفلسطينيون بإحراق غابات جبل الكرمل:

“براس الكرمل الغابة بشرارة زرعنا جهنم الحمرا بايدينا”

في القول الصهيوني والمغنّاة الفلسطينية ما يجعل الكثير من السجال الدائر اليوم بين الفلسطينيين فائضاً عن الحاجة، في زمن التيه الفلسطيني العاطل عن الفعل.

المصدر: موقع باب الواد ( رابط المقال )