أحدث ظهور وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في عالم الاعلام والتواصل حيث حولت جمهور المستقبلين من متلقي سلبي لمنتجات وسائل الاعلام المختلفة الى شريك في انتاج وتطوير المواد الاعلامية من خلال الاعلام التفاعلي، أي تدخل المستقبل من خلال تعديل صياغة أو مشاركة وتعليق أو إبداء رأي. فاصبحت عناصر الاعلام الثلاثة (المرسل- والرسالة والمستقبل) متشابكة ومتداخلة بحيث افقدت وسائل الاعلام واصحاب الاموال الداعمة احتكار الرسائل الاعلامية والاخبار المنقولة عبرها.
كما أصبحت المادة الاعلامية أكثر عرضه للانتقاد والتحويل والتغيير وإنتاج رسائل مضادة من قبل المستقبلين أنفسهم، الأمر الذي ساهم في تنوع الرسائل والمعلومات المتناقلة من مصادر أولية ومنح الجمهور في الشارع القدرة على التعبير عن رأيه ونقل معاناته بالصوت والصورة وبوسائل بسيطة وفي متناول الجميع، إلا إنه كذلك ساعد في نشر الأكاذيب والإشاعات، فان كانت وسائل الاعلام تخضع لرقابة المهنية من ناحية الالتزام بالموضوعية والحيادية في نقل الحقائق فمن المستحيل فرض النظم ذاتها على الأفراد، الأمر الذي يخلق حالة من ضياع الحقيقة وتشكيك الجمهور بكل الثوابت- (من كثرة الشجر يصعب رؤية الغابة)
ينسحب هذا الحال على الحالة الفلسطينية في ظل الانقسام الحاصل بين شطري الوطن، هنا حدث استقطاب غير مسبوق في المجتمع الفلسطيني وانعكس على وسائل ال‘علام التابعة لكل طرف فاصبح التشويه المتعمد من كل طرف لكل خبر أو حدث حتى خلال المواقف التي تتطلب بالضرورة تلاحم شعبي وفصائلي مثل الحروب المتكررة على قطاع غزة، فترى المواقع الغزّية تصور حجم وعظمة صمود المقاومة في غزة وتكاتف أهاليها من حولها بينما تركز المواقع الإعلامية في الضفة على حجم الدمار المتأتي من (المغامرة غير المحسوبة) لحركات المقاومة والتشكيك بوجود أي انجازات لها.
بدورها لعبت القنوات والمواقع الإخبارية بغزة والتابعة لحركة حماس دور شبيها في التقليل من أهمية أي تحرك سياسي ودبلوماسي للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولكل قناة فضائية أو موقع إخباري مؤيديه الذين يتلقفون أخباره ويعملون على نشرها ضمن وسائل التواصل الاجتماعي ويمكنهم إضافة آرائهم وتعقيباتهم بغض النظر عن مدى مصداقيته، الأمر الذي يرفع المسؤولية المهنية عن وسائل الإعلام الرسمية في تداول أخبارها وتحريفها بما يخدم المصالح المختلفة.
هذا الخَطاب المتناقض قام بتوسيع الفجوة بين الطرفين وتعميق حالة الاستقطاب بين مجتمعي غزة والضفة، في نفس السياق قامت هذه القنوات بتعظيم إنجازات كل طرف ومعاركه الدونكيشوتية على الرغم من واقع التراجع الجلي للقضية الفلسطينية خارجيا وفي كل المحافل الدولية وتدهور أوضاع المواطنين اقتصاديا واجتماعيا وتغول الاستيطان في الضفة الغربية وذلك بالاعتماد على ما بات يعرف (بالسحيجة) أو بسانشوا التابع المخلص لدون كيشوت ودوره في نقل أخبار معاركه الوهمية وتحويلها إلى انتصارات مظفرة.
هذه السانشوانيات ما فتأت تتكشف في ظل التدهور السابق الذكر والذي بات من المستحيل إخفاءه أو الكذب بشأنه، إن الكذب حسب تعريف قاموس ستانفورد هو محاولة طرف على الرغم من عدم اقتناعه أو تصديقه لمعلومة أو خبر ما بإقناع طرف اخر بتصديق حدوثه.
والكذب في الإعلام هو أهم أسس البروبوغاندا السياسية كما وصفها غوبلز "أكذب حتى يصدقك الناس"، أكاذيب الاعلام الفلسطيني غير المسئول إلا "من رحم ربي" بلغت حد لا يمكن السكوت عليه حيث ساهم بعزوف المواطنين عن السياسة والتأثير السلبي والعميق في الصحة النفسية للأفراد وتفشي الاحباط والشعور بالعجز وعدم الثقة بالفصائل ككل وأفضل دليل ما حدث مؤخرا في ما بات يعرف بهبة القدس، حيث كانت هبة جماهيرية أو انتفاضة عابرة للفصائلية بدون أي تخطيط أو تنظيم فصائلي وعكست العمليات المنفذة من قبل المنخرطين بها حالة الاحباط الشخصي
الأمر دفع القنوات الإعلامية إلى التخبط وعدم الوصول الى خَطاب مشترك يتم من خلاله استثمار هذه التضحيات الكبيرة لتحقيق مكاسب للشعب الفلسطيني ولقضيته في المحافل الدولية، بعد إن فقدت صوتها في ظل الانقسام الداخلي والتطورات على الصعيدين الإقليمي والدولي، ما دفع إلى تمكين الآلة الإعلامية الإسرائيلية بالتفرد دوليًا ولعب دور الضحية كالمعتاد و وصم النضال الفلسطيني بالاٍرهاب، مما احال الميديا الفلسطينية إلى كوميديا .. سوداء بالأغلب.