سنة 332 قبل الميلاد، كان الاسكندر الكبير واقفا يصدر الأوامر لجنوده تحت الشمس. عصفور طار، وسقط منه، على كتف الاسكندر كتلة من الرماد. المؤرخ والقائد العسكري ’أريانوس‘ روى هذه الرواية وأردف بأن الكاهن الذي يرافق جيش الاسكندر قد قال له بأن كتلة الرماد هذه إشارة من السماء: "ستنجح في إخضاع المدينة، لكنك ستصاب بجرح بليغ"، قال له.
حدث هذا أمام الأسوار
المدينة إسمها غزّة. مدينة بأسوار عالية. حين تقهقهر الفرس الذين كانوا يحكمون المنطقة، ظلّت حاميتها العربية التي رفضت الاستسلام لجيوش ’ذي القرنين‘ فيها وكانت مصممة على تركيب قرن ثالث له، على ما يبدو، وهو ما سيحصل له لاحقا.
قبل عامين من وقوفه على أبواب غزة، كان الاسكندر قد اجتاح بلاد الشام كلها. فقد هزم جيوش الفرس في معركة غرانيكوس، ومن ثم هزم ملك الفرس، ديرفيش الثالث في معركة إيسوس. ومنها، توجه إلى دمشق، التي كانت تحتوي على الكنز الملكي وقد استسلمت في أعقاب خيانة حاكمها. تمّ اجتياح ’فينيقيا‘ بأكملها، وحتّى مدينة صور الحصينة ذات الأسوار العالية سقطت. وهكذا، فقد بقيت غزة وحدها في وجه الاسكندر وجيوشه الجرّارة.
لو كنت أنت غزّة، وكان الاسكندر، مفرّق الجماعات وهادم الممالك، آتيا إليك بجيوشه عارضا عليك الاستسلام .. تعمل إيه؟
تزعل؟ لأ.. تتضايق؟ لأ.. تعمل إيه؟
للتذكير:
لم يكن هنالك فيليب حبيب أو دنيس روس. لم يكن بان كي مون قد أصيب بداء القلق المزمن بعد. ولم تكن هنالك سعودية يقرأ أحد العاملين لدى ولي عهدها مقالا في النيويورك تايمز فيشتريه من صاحبه، ويحوله إلى ما يعرف باسم ’مبادرة السلام السعودية‘. كما لم يكن رياض المالكي قد فُصل من الجبهة الشعبية بعد.
كانت هنالك غزّة.
حامية فارسية مخلوعة القلب من المفترض أن تدافع عنها، وسكّان يسدّون بلحمهم كل ثقب محتمل. جاء الإسكندر، فصمدت غزة في وجه الحصار. انكسرت هجمات على أسوارها. وهذا ما دفع الاسكندر إلى جلب مهندسيه لكي يبنوا أبراجا حديدية وسورا مرتفعا يحيط بأسوارها. استمرّ بناء الأبراج والأسوار لمحاصرة المدينة تسعة أسابيع. لكن سكان المدينة المدنيون، المحميون باتفاقية جنيف الدولية، واجهوا الجنود بالنبل، وقتلوا العاملين على بناء الأبراج. وهذا ما دفع بالإسكندر إلى حفر الأنفاق تحت أسوار غزة. لكن أي مقدوني هذا الذي يريد أن يسوق الأنفاق على أهل غزّة؟ صمدت المدينة وقاتلت وانكفأ من بنى البرج ومن حفر النفق.
ثلاثة هجمات دموية انكسرت على أسوار غزّة الجائعة. تراكمت جثث القتلى تحت أسوارها وفاحت رائحة الموت في كل خلية، موت الجوعى في المدينة، وموت المهاجمين النازفين على أبوابها.
ثلاث مرّات. ثلاث هجمات دموية حطّت فيها قبضة الإسكندر، محطم الجيوش، على أسوار غزّة، فلم تنكسر. لا على معبر المنطار ولا في كيسوفيم.
لم يحظ المقدوني بمتعة أن يقول ما قاله جنرال اسمه شارون، ذات يأس: "أنا أحكم غزّة في النهار والفدائيون يحكمونها في الليل" ولّى زمن الحكم إلا لله الواحد القهّار. وكانت الضريبة دما كثيرا.
في الرابعة تمكن المقدونيون من وضع سلالمهم على السور الجنوبي (من جهة السيسي يعني) وتم فتح الأبواب. (هكذا تنتهي البطولات، سهم في الخاصرة أو في الكعب، سكين مارقة تحت الدرع، أو شركة كهرباء تلوّح للسكان المحاصرين برغد العيش تحت الاحتلال).
ظل الاسكندر يراقب المعركة من بعيد، بسبب من النبوءة حول إصابته بجرح بليغ، المؤرخ روبوس قال بأن الغزّيين قاتلوا حتى الرجل الأخير، وقد رأى الإسكندر واحدة من فرقه وهي تتعرض للذبح في أحد شوارع غزة ويبدو أن سرايا القدس كانت مسؤولة عن ذلك القطاع، فهبّ مع جنوده لكي ينقذهم، وهو ما أدى بالطبع إلى إقحام جسم معدني بارز في جسد الإسكندر، صعودا ونزولا، وهو تسبب في إصابته بجروح بليغة أعاقت، فيما يلي، هجومه على مملكتين مهمتين: إمارة الدولة الإسلامية في سيناء، وجمهورية مصر العربية.
كيف تنتهي، حقيقة حكايات الحصار؟
الأهم: ما الذي يعنيه أن تعيش تحت حصار ؟
وهل قطع المقدوني الكهرباء عن غزة؟ وهل منع المرضى من الخروج للعلاج؟ وهل منع الطلبة من استكمال تعليمهم؟ وهل منع إدخال الإسمنت؟ وهل منع إدخال أجهزة الـUPS والفايبرغلاس لإصلاح القوارب؟ هل منع الصيد في بحر غزة؟
لقد قام بذلك، بكل تأكيد.
هل راود اليأس سكّانها وشتموا حماس؟
لربما فعلوا ذلك.
هذه الأرض فعلا أرض تشرب الدم. الحياة للأسف يعني ليست عادلة. والحصار مفروض على الجميع، على من يرغب في المقاومة وعلى من يرغب في الهجرة أو شحن هاتف الغالاكسي خاصّته بالكهرباء.
ولكن، أخي الراغب في الهجرة. أختي الراغبة في الهجرة والكهرباء، والشمينت.. تذكروا بأن من يمنعكم من ترك هذه الأرض التي تشرب الدم هو من يفرض عليكم الحصار. لا أحد غيره. وبأنه يكرهكم، ويحتقركم، ويرغب جدا في موتكم، بحماس أو بدونها. وهذا خيار لم تضعكم حماس أمامه.