شبكة قدس الإخبارية

أنا ليلى خالد!

هاجر شويط

قبل أربعِ سنواتٍ من 1948م كانت أولُ صرخةٍ لي في الكون، ثم توالت الصرخات الكثيرة والطويلة، نزفَ صوتي وتقطعت حياتي، وأنا بنتُ الأربع أعوامٍ استيقظت على صوت "الطخ" ومنظر أمي وهي تجمعنا –أنا واخوتي- كأننا حباتٌ ليمون في صحن واحدة، للسفر إلى لبنان، كنا نذهب إلى لبنان كل صيفٍ وكانت الابتسامات تسبقنا إلى هناك، ورائحة الفرح تكون أقوى من رائحة البرتقال الذي نودعه، نغني من حيفا إلى صور

وفي ذلك اليوم جمعتنا واحدًا واحدًا وأعادت عدنا كأننا قطط صغيرة، أعدتنا لتجد أن أحدنا غائب، كنتُ أنا، لقد بقيت في المطبخ أحرس "زنبيل التمر" الكبير الذي أحضره أبي، كنتُ خائفة ومرعوبة، ماذا لو أخذه اليهود منا؟، إنه لنا، لم أعلم وقتها كم أن زنبيل التمر رخيص أمام ما سيأخذونه، لو أخذوا تمر العالم وتركوا الوطن بذاكرته وروائحه

أعادت الصعود مجددًا تحمل فتيلا مشتعلًا من الغضب والحرقة، أوقفها الجيران عن فعلِ الصراخ بي، فلو أنني لم ألحق بالتمر لحقنا الموت، سقطت قذيفة على السيارة التي كان من المفترض أن تقلنا في نفس الوقت الذي وجدوني فيه بالمطبخ، وهكذا نجونَا بجلدنا، ولم تتذوق أطر السيارة لحمنا ولم يصبغ الزجاج بدمنا، لا أذكر من ذلك البيت الحيفاوي في الكرمل، المطل على منطقة الهادار التي كان يقطنها أغنياء اليهود، إلا درابزين الدرج الذي كنا نمسكه ونحن نركض خلف بعضٍ.

لقدوا قتلوا ضحكاتنا هناك، ونفوا أجسادًا بلا أرواح هُنا، لقد بقيتُ هناك، شيءُ ما علقَ في الدرابزين، في المرة الثانية التي جمعتنا أمي لم أحضر معي إلا بودرة أختي التي كانت بعمرِ الأربعين يومًا، كانت علبةً طويلة وملونة، لم أعرف بالذات لم أخذتها، لربما فكرت من أين سنأتي بعلبةٍ أخرى في بيت خالِ أمي بصور، لم أفكر وقتها، أن البودرة مازالت موجود وتباع إلى اليوم، لكن الوطن والأرض واللغة والزيتون لن أجدهم إلا على أرض حيفا.

***

عندما وصلنا لبنان، بالضبط إلى بيت خال أمي، وكان بيتًا بمدخلٍ تكسوه أشجار البرتقال، رحنا نتسابق لقطف برتقالةٍ، لربما تنسينا لسعاته ما ذرفناه في الطريق، لم نعلم لم نبكي، كنا صورة مكررة لأمي وكانت تمارس تلك الحالة منذ جمعتنا وأعدتنا حتى وصولنا إلى صور، وإلى غاية اليوم الذي رحلت فيه عنا، ولم تكن تلك أجواء سفرةِ كل سنة، حينها قفز صوتُها مرة أخرى (هذا البردقان مش إلكم، بردقانكم بحيفا)، وبدل لسعة البرتقال وصلتني لسعةُ يدي أمي على أيادينا الصغيرة، الصوت مازال يحفر في أذني مذ يومها، لقد كرهتُ البرتقال ولم أتناوله إلى عام 1970!

لم يكن الجديد إلا انحدارا في حياتنا، لقد تحولنا من مواطنين نملك بيتا وأبا يملك مقهى تغطي كافة احتياجاتنا، إلى لاجئين تحت سقف بيتٍ صغير أحسن حالٍ من الملاجئ عندما نفكرُ بمنطق الأحسن، لأب معتقلٍ وأمٍ لا تعمل، كومة من اللحم تحفر في الأرض لتجد حياةً قد تمت بصلة إلى حياتها السابقة، هذا ما صنعته منا النكبة، نحن لم نفقد الأرض والبيت والوطن والبرتقال، لقد فقدنا ذواتنا، وأبسط حقٍ إنساني، مواطن بوطن، وليسَ لاجئا في بلاد الله.

لم أتذكر يومًا أنني حملتُ قلم رصاصٍ كاملٍ كانت أمي تقسمه نصفين، وربما لو كان هناك شيء آخر يقسم ويستعمل جماعيا لفعلت، وفيما بعد حملتُ سلاحا كاملا، قنبلةً مفتوحة، وقدتُ خلفي أصواتا كثيرة، لم أكن آكل من عملِ والدي، بل كانت الأونروا تعطينا لقمتنا، وكرهت المدرسة، كرهت أنني أنتمي إلى حجرة تدعى "مدرسة للاجئين" قطع البرد جلدي، ومزقني ووقع على رؤوسنا سقفها، وكرهتني حينها، صرختُ في أمي "لن أذهب مرة أخرى إلى هذه المدرسة"، ولا أعلم كيف توالت الدقائق، وجدتُ نفسي في قبضتها أطل من حجرتنا تماما في مستوى نظري مخيم الرشيدية، تصرخ أمي جملة واحدة تتساءل "إنتي أحسن أو همّا؟"، فوضعت لساني في حلقي وبكيت

لم أحمل لعبةً يوما، ولكنني خطفتُ طائرة بعدها، لم يكن العيد لنا، نعم كنا نقول "العيد مش إلنا"، ومازلنا نقول "الأرض لنا". أنتمي إلى جيل اللاجئين في لبنان، إلى الذين يخرجُون ويُخرِجُون أصواتهم المعلبة المدفونة، تهتفُ بحقوقهم المصادرة، وأمانيهم المبتورة، كل 15 أيار "النكبة"، وكل 2 نوفمبر "وعد بلفور"، وكل 29 نوفمبر "ذكرى التقسيم"، وكل ما يتسع الوقت لفعل مشابه، كنا نبحث عن حريتنا ولكننا ضائعين.

31

*** "-إنتي مستعدة تموتي؟ -آه طبعا، إيش هالسؤال -لأ، مستعدة تفوتي على السجن؟ مش هذا اللي جاية علشانو -عشان إيش؟ -إنتي جاي تخطفي طيارة" ضحكت، ضحكت كثيرا، شعرت وكأنني سأحمل طائرة على كتفي وأركض بها.

في عام 1969 بدأت بممارسة شغفي المقاوم، حين كلمني الدكتور وديع حداد وذهبت إلى منزله ودار بيننا هذا الحوار، ومن هناك بدأت التدريبات وتغيرت الحياة كليةً، فقط ما كنت أحتاجه هو القناعة وإيمانا بحب الوطن، وكانت خطوةً أولى للضغط على "إسرائيل" من أجل تحرير المعتقلين، لم أكن سعيدةً لذلك فقط، الطائرة كانت ستحلق بين خطوط أمريكا-روما-أثينا-تل أبيب، وعندما عبرت الطائرة فوق تل أبيب رأيت فلسطين بعد 21 عامًا من الغياب، لقد رأيتُ وجه أبي فيها.

لقد كنتُ في الخامس والعشرين من عمري، خمس وأربعون كيلو وأحمل قنبلة مفتوحة، أحمل سلاحا كثيرا ما يسقط من خصري نحو ركبتي، متواجدةً في غرفة التحكم مع الطيارين المختطفين، هكذا عبرت وطني لأول مرة. بعدَ العملية بعامٍ واحد تجددت الثقة في ولكن لم يتجدد النجاح وفقدتُ رفيقي في العملية بينما اعتقلتُ في لندن، وهناك حدثت المواجهات مع الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية، كنتُ معزولة عن العالمِ وتسربت لي جرائد رأيتُ فيها أشلاء أبناء بلدي، وتصورتني هناك، وهناكَ أيضا تسربت لي برتقالة من سجانتي.

لقد قمتُ قبل الخطف مجددا بعملياتِ تبشيع لملامحي، كأنني تعرضت لحادث سيارة ورفض الطبيب فعل ذلك فوقعتُ له أنني المسئولة عن هذا، وأخبرته بالحرفِ الواحد (جرب وازا مزبطش، ارجع اعمل اشي تاني)، وهكذا غيرتُ ملامحي ورجعتُ إلى تعديل وجهي مرةً أخرى، المقاومة تعطينا شكلا أجمل ربما.

***

التحقتُ بحركة القوميين العرب، ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بينما كانت أمي ترفض انتساب بناتها إلى أحزابٍ سياسية ومقاومين بالسلاح، لكنني كنت هناك إلى جانب إخوتي، لقد تركت منصبي كمدرسة في الكويت وآمنت أن الوطن ينادي ولحقتُ صوته، كان أبي ظهرًا لي وكان يقول لأمي (اللي بدو يرجع فلسطين، بدو يشتغل).

32

أنا اليوم أم لشابين، بعد زواجي عام 1982 م، واستقراري بالأردن رغم منعي من مزاولة العمل السياسي هُنا، مازلت أسافر وأحمل الكوفية على كتفي وفلسطين في قلبي وفكرتي، يؤلمني سماع الآخرين يرددون "فلسطين باعوها الفلسطينيين"، عملتُ أيضا لأمزق هذه الجملة، وأثبت أن المقاومة كانت من الجميع، نساءً بعن ذهبهن ورجالا اشتروا السلاح، علمتُ ولداي (احنا فلسطينيين، بدنا نرجع، وحتى نرجع لازم نشتغل)، ابني دائما ما كان ينزعجُ من تركي لهم والسفر للعمل على إيصال صوتِ القضية، والخروج من دائرة اللاجئين وحقوقهم ووجوب مساعدتهم، بل التعدي إلى حق العودة، كان يقول أن كل هذا الكلام السياسي سيدفن، "طخي ورح يسمعك الكل".

أنا "ليلى خالد" أؤمن بقانون "في احتلال، في مقاومة" تماما كما نصته الأمم المتحدة أراهن حياتي على هذه القضية، المقاومة حقي، والعودةُ حلمي.