لم تكن صورة فلسطين في ذاكرتي الطفلة، إلا صورة الحرب والقتل، المعاركُ اليومية الطاحنة، أعراس الشهادة والمواكب الجنائزية تحت أهازيج البكاء والزغاريد، صورة الأم المنحنية على وجهِ الشهيدِ قائلةً "يُمَا"، الإطارات الخشبية المذهبة التي تحملُ وجهه ضاحكا تزينها ورود كروحه المحلقة لحظتها، أو صورة الأجساد الضئيلة كبقايا الخبز ملتفةً حول والدهم الذي اعتلت روحهِ إلى جوار الله، قد يخطفُ الرصاص طفل أو شابة أو حتى عجوزًا لا يحركُ ساكنا، وتجتر الحياةُ نفسها كل يومٍ، أيضا الجرافات الصهيونية وصراخ أفراد البيت الذي هُدمَ على مرآهم، في أحسن حالات كنتُ أختصرها بكوفية وغصنُ زيتون وثوبٍ مطرزٍ، وموالٍ ينشدُ حزن الأرض.
لم أكن أملك فكرةً أكثر من هذا الألبوم مبعثر اللحظات، التي قد تشكلُ صورة كاملة لوطنٍ محتلٍ ومغتصب على مرأى منا دون أن نُحركَ إلا دمعنا ودعاءنا كأضعف الحب والإيمان، هكذا ما كانت تحمله ذاكرة الطفلة التي توازت طفولتها معَ الانتفاضة الثانية.
قبل حوالي خمس سنوات كان تعرفي بالصدفة على فلسطينية عبر موقع الفيس بوك، طالت أحاديثنا، تحدثنا طويلًا عن الجزائر وفلسطين، كلٌ منا تتحدث عن عادات البلدة خاصة وأننا كنا كهذه الأيام في في الشهر الفضيل رمضان، عرفتُ أنها من نابلس "جبل النار" وعرفت أنني من قسنطينة "مدينة الجسور المعلقة"، حتمًا سألتها عن صوتُ الرصاص وأخبار الحرب، أين تخبؤها للحديث معي؟، كيف أنها قفزت من الحرب إلى أثير الشبكة، وبالتأكيد قد ضحكت رادةً أن الجو الآن يعد صفوًا رغم المستوطنات المزروعة بين كل بيتين، وأننا نكاد نعيش في سلام ظاهري، وأن هذه الحرب التي أتحدث عنها توجدُ في دواخلنا دومًا وكثيرا ما تترجم على اعتداءاتٍ وسقوطِ شهداء الوطن وقتلى في صفوف المحتلِ.
وبعدَ هذا التعارف البسيط حدثت النقلة النوعية، ونخر السؤال الذاكرة المتعبة: هل أعرفُ فلسطين؟، فلسطين المجتمع العربي، والأدب والثقافة والتاريخ، ولمَ لا فلسطين "يا زريف الطول"، وقفزتُ من صورةِ الوطن الغارق في الاحتلال والحرب وصراع الهوية والأرض، إلى عالمٍ إضافي يشكل الهوية الحقيقية لهذا الشعب وهذه القضية الإنسانية.
عرفتُ وعد بلفور، والخطوط البائسة للتقسيم، جدار العار، قرأتُ عن السياسات والمقاومات، الضفة والداخل والقطاع المحاصر، قفز عقلي من صورةٍ وصوتِ "يما" وعرفتُ أصواتا أخرى للعمل والعلم والإنجازات، الفكر والفنون، ومن قصائد فدوى طوقان ومحمود درويش المقررة في المنهج الدراسي، عرفتُ سميح القاسم، غسان كنفاني، مريد البرغوثي، إميل حبيبي، إبراهيم جبرا، محمود شقير، ربعي المدهون والكثير الكثير غيرهم الذين حملوا القضية في كتاباتهم وعلى أكتافهم، عرفتُ أصواتًا جعلت من قضيتها فنًا كريم البنا وريم تلحمي، استنشقتُ روائح كعك السمسم في شوارع القدس من قراءات وذاكرات حية، ومذاق الكنافة النابلسية عبر الصفحات، "رأيتُ رام الله" مع مريد البرغوثي، تمزقتُ مع سقوط حيفَا وغزو منازلها مع "عائدٌ إلى حيفَا"، وتركتُ الطنطورة بحسرة أكبر مع رضوى عاشور، توجعتُ "بينما ينام العالم" مع سوزان أو الهوى، حملتُ غصن الزيتون على صوتِ مارسيل خليفة، وكنتُ "أحن إلى خبز أمي" مع درويش، و"لأجل مدينةِ الصلاة" صلينا مع فيروز.
دخلتُ الأقصى مع قلوبِ المصلين وحارسيهِ، ورأيتُ النصر يسيل من دموعِ جنود الله على الأرض، ووضعتُ الشموع أمام عذارء كنيسة المهدِ، عرفتُ القدسَ وباب العمود، الكرمل والمجدل عسقلان، عرفت المخيمات والبيوت المحتلة، عرفتُ طولكرم، جنين، نابلس، قلقيلية، حيفا ويافا وصفد وعكا والناصرة، رام الله والبيرة والخليل، القطاع وخان يونس، عرفتُ الأثواب المطرزة الكثيرة والمتنوعة والكنعانيون، كذلك الفلافل وخبز الطابون، عرفتُ رمزية الزيتون وزيت الزيتون والزعتر، أدركتُ ما معنى أن تفتح باب بيتِك لتجد "جارًا" اغتصب بيتًا بجانبك وكيف تمشي كل يومٍ بجانبه دون أن يكون لكَ حق استعادته.
عرفتُ أن الحربَ تنجبُ شعراءً وكتابا وصحفيين، معلمين ومهندسين وأطباء وبنائيين، وأن اليُتم يعلمُ حمل السلاح في سبيل الأرض ليكون ماءً للحرقة، عرفتُ ماذا يعني أن تمشي في أرضكَ فيوقفك عدوكَ لتشهر بطاقتك ويسمح لك بالعبور أو يردك وكيفَ تمنع من الصلاةِ في مسجدٍ هو لكَ أو ترتلَ في كنيسة هي مهدك ومهد الحضاراتِ، عرفتُ الهوية الزرقاء والخضراء، وكيف تجبر لسانك على تعلمِ لغةِ قاتلك، وكيف تجبركَ الظروف على الابتسامةِ في وجهٍ تكرهه ليمرُ يومكَ بسلامٍ، لقد عرفتُ ما معنى تكون لاجئا، أن تنتقل بين ساعةٍ وأخرى من مواطنٍ سيد إلى مجرد عددٍ وبطاقةٍ بمخيمٍ خارج أرضك، وأن بيتكَ غدا منزلًا فخما لآخرين هجروك منه بالوحشية والبطش، وما معنى أن تغدق عليك الأنروا بنصفِ قلمِ رصاص لتكتب، وبعلبةِ ألوانٍ يشترك فيها جميع الصف، وصحنٍ أرز لجميع العائلة، وكيف يظل كاملُ قلبك يحمل قضيتك، وكيف تحاصرُ حتى الموت، وكيف تلفظ أنفاسك وينكل بكَ لأنك تدافع عن حقك الطبيعي في الرجوع إلى وطنك ويطلق عليكَ مفردة ساقطة "إرهابيٌ".
وعرفتُ كيف يرخص دمُ كبدك ودمكَ وبيتك ومالك، في سبيل شجرة زيتونٍ، وكيف تذرفُ دمعةً بعينٍ وتبتسم العينُ الأخرى، عرفتُ النكبة، حق العودة، يوم الأرض، معاهداتٍ كثيرة باسم السلام وأخرى باسم صورة جديدة مشرقة ولكنها مقسِمَة، عرفتُ أن العرب لم يجتمعوا يومًا على جميلٍ يصنعوه، وعرفتُ أن في كل بقاعِ الأرض ثمةَ فلسطيني يحمل بطاقة لاجئ ويخبئ مفتاحًا لأنه يؤمن بحقِ العودة.