رام الله- خاص قدس الاخبارية: في تلك الليلة استيقظ الجميع على أصوات القصف، خوف وقلق وتساؤلات عن مصير مجهول ينتظر القرية وسكانها، ساعات مرّت حتى عم السكون الذي كان بمثابة هدوء ما قبل عاصفة جديدة.
الزمان هو الأربعاء (24/تشرين أول/2001) وتحديدا عند الساعة الواحدة فجرا؛ وردت معلومات لعناصر الشرطة في قرية بيت ريما غرب رام الله حول سكون غير اعتيادي لقوات الجيش، إذ أنه لا يوجد أي حركة للجيبات العسكرية، الشرطة بدورها أبلغت عناصر الأمن الوطني بتلك المعلومات.
بعد نصف ساعة اجتاح ما يقارب 1500 جندي من القوات الخاصة القرية، وبسرية تامة انتشروا في جميع أرجائها، وكانت مهمتهم قتل الساهرين على أمنها وكل من يقاوم.
كان يتواجد في مركز الشرطة ستة عناصر هم، عودة زيدان وهو الوحيد من بيت ريما، إضافة لقاسم المغربي، ورفيق صقر، وعبدالله نوفل، وعادل سليمان، وباسم مزهر وكذلك مقاومين اثنين مطلوبين لجيش الاحتلال من بلدة كفر الديك، أما عناصر الأمن الوطني فقد كانوا خمسة هم عبد المعطي الزواوي، حريص حجة، محمود يوسف، أشرف شواهنة، وسنان أبو خوصة.
في الوقت الذي انكشفت فيه القوات الخاصة، انطلق كامل البرغوثي وهو من قرية دير غسانة المجاورة، وأحد عناصر الأمن الوطني، إذ كان في ذلك اليوم بإجازة عن العمل، متوجها نحو ثكنة الأمن الوطني المقامة أول القرية، ليحذر زملاءه.
في تلك اللحظة كان مئات الجنود قد حاصروا الثكنة واستعدوا لارتكاب مجزرة مباغتة بحق رجال الأمن، لكن قدوم البرغوثي فاجأهم، وعندما أضاء سيارته دون أن يعلم أن المنطقة محاصرة، أمطره الجنود بوابل من الرصاص ارتقى على إثره شهيدا.
طائرتا "أباتشي" حلقتا في أجواء القرية لمساندة القوة، وبدأ إطلاق النار بشكل عشوائي من الجو والبر، وأثناء خروج عناصر الأمن من الحاجز أصيب شواهنة فأسنده رفاقه وتمكنوا من نقله إلى منزل يوسف حجاج القريب، فيما توجه الزواوي وحجة ويوسف نحو أحد حقول الزيتون.
تزامن القصف مع اجتياح القرية بعشرات الجيبيات العسكرية والناقلات، إضافة إلى الدبابات ومجنزرة، وتم إغلاق المداخل التي تؤدي إليها. بدأت القوات الخاصة بالبحث عن عناصر الأمن الوطني، وفي ذلك الوقت كان مئات الجنود في طريقهم لمحاصرة مركز الشرطة.
يقول أحد عناصر الشرطة (شاهد على ماحدث) لـ قُدس الإخبارية، "كنا حينها على سطح بناية أحد المنازل المجاورة للمركز تحسبا لأي اقتحام، سمعنا صوت إطلاق رصاص في القرية، اتصلت على أحد الشبان فأبلغني أنهم متواجدون قرب أحد المنازل وسط القرية، وبسرعة توجهنا نحو المركز وبدأت بتوزيع الأسلحة المتوفرة، إذ أن المعلومات التي كانت صادرة إلينا أنه في حال اقتحام مناطق السلطة يجب أن نقاوم".
يضيف الشاهد، أنه كان يتوفر ثلاثة أسلحة من نوع "كلاشنكوف" ومسدس واحد، "أمسك كل من رفيق وقاسم وعبدالله بالكلاشنكوف، وأنا بالمسدس، اعترض البقية وأرادوا أن يأتوا معنا، وطالبوا بتزويدهم بالأسلحة".
خرج العناصر الأربعة وبرفقتهم أحد المطاردين حاملا سلاحه، وأشار عليهم عودة أن يقفزوا نحو حقل الزيتون المقابل للمركز، حتى يصلوا إلى طريق التفافية تؤدي إلى وسط القرية، لكن أحد المواطنين أبلغهم أن المنطقة أصبحت محاصرة.
قرر رجال الأمن البقاء في حقل الزيتون، إذ كان يوجد في منتصفه كومة كبيرة من الحجارة "رجم"؛ لم يشأ زيدان أن يصعد عليها خوفا من إصدار أي صوت وقرر أن يلتف من خلفها، لكن رفيق قرر الصعود ولحقه قاسم.
بعد لحظات صرخ أحد العنصرين "الله أكبر"، تبع ذلك إطلاق نار من سلاحيهما، لتبدأ زخات من الرصاص تنهمر عليهم من كل الاتجاهات، على الفور استشهد قاسم ورفيق.
تمكن زيدان ونوفل من الاختباء، وبعد دقائق سمعا صوت صراخ صادر من المركز، نهض نوفل وأراد أن يتوجه للمركز لمعرفة ماذا يحصل، لكنه لم يتمكن من الوصول ليعود أدراجه مسرعا وقائلا، "بسرعة جيش إسرائيل كله في المنطقة، تمكنت من عد 100 جندي يقفون على السلسلة".
طائرة الأباتشي بقيت تحلق في أجواء القرية وتقصف، وفي اللحظة التي أصبحت فيها فوق عناصر الأمن الوطني الثلاثة الذين يتواجدون في حقل زيتون، كشفت مكانهم وبدأت بإطلاق الرصاص، الزواوي بدوره رفض أن يستسلم وبدأ يطلق الرصاص نحو الطائرة، إلا أن كثافة الرصاص أدت إلى إصابته ومن معه بجروح.
في تلك المجزرة استشهد كل من، الشرطي قاسم المغربي (26 عاما)، والشرطي رفيق صقر (27 عاما) وكلاهما من قطاع غزة، والرصاصات كانت مباشرة في الرأس، ومن الأمن الوطني، استشهد، كامل البرغوثي (20 عاما) من دير غسانه، وعبد المعطي الزواوي (22 عاما) من قراوة بني زيد، وحريص حجة (29 عاما) من قرية برقا، اللذان بقيا ينزفان حتى استشهدا بعد بضعة ساعات.
أما زيدان وأحد المطاردين فقد تمكنا من النجاة والوصول إلى وادي كفر عين بعد أربع ساعات من الزحف، في حين تم إطلاق سراح باسم مزهر واعتقال عادل الشعيبي بعد إصابته بالرصاص.
سنان أبو خوصة أصيب لكنه تمكن من الانسحاب، في حين أن محمود يوسف أصيب بفخذه الأيمن وبقي ينزف حتى تم العثور عليه من قبل الجنود.
أما شواهنة وهو من قلقيلية فبقيت عائلة يوسف حجاج تقدم له الاسعاف الأولي بناء على تعليمات الطبيب باسم الريماوي.
في ساعات الصباح؛ تم فرض الحصار الكامل على القرية ومنع سيارات الاسعاف والصليب الأحمر ووسائل الإعلام من دخول القرية، وبدأ جنود الاحتلال عبر مكبرات الصوت يهددون بقتل كل من يخرج من بيته.
جنود الاحتلال اقتحموا منازل عائلات بلال البرغوثي، ومحمد الريماوي، وباسل الريماوي، وحولوها إلى ثكنات عسكرية تحاصرها الدبابات والجيبيات ويعتلي الجنود أسطحها، وبقي أفراد العائلات رهن الاحتجاز في المنازل. كذلك استولى الجنود على عدد من المنازل المرتفعة في القرية وعاثوا فيها الفساد وتسببوا بإحراق منزلين.
الهدوء يسود القرية، وحالة من الترقب والخوف لما ستؤول إليه الساعات القادمة، طائرة الاستطلاع بقيت تحلق في الأجواء، ونظرا لمنع التغطية الإعلامية فقد حدث تهويل حول عدد الجرحى والشهداء وانتشرت الشائعات حول وجود عشرات الجثث في حقول الزيتون وعلى جنبات الطرق.
بعد الساعة التاسعة صباحا بدأت قوات الاحتلال بالبحث عن الجرحى وجثامين الشهداء، الجرحى تم نقلهم إلى مستوطنة "حلميش" وفي ساعات المغرب تم نقلهم لتلقي العلاج في المستشفيات، في حين أن جثامين الشهداء تم وضعها على سقف الدبابات، وعندما كان يقع الجثمان أرضا يمسكونه ويلقونه على السقف مجددا.
في ساعات ما بعد العصر، بدأت قوات الاحتلال بإنزال صناديق وإدخالها إلى المنازل الثلاثة المحاصرة ومن ثم إخراج العائلات منها، لتنسحب الدبابات بعد قرابة النصف ساعة ويبدأ الجنود بالركض بعيدا عن المنازل، وما هي دقائق معدودة حتى هزت أصوات الانفجارات أرجاء القرية وتحولت تلك المنازل إلى ركام.
قرية بيت ريما كانت أول منطقة تتبع لسيطرة السلطة الفلسطينية المدنية والعسكرية وتصنف "أ" يتم اجتياحها وارتكاب مجزرة فيها، ونتيجة لذلك بدأت اتصالات خارجية وضغوط دولية لدفع رئيس حكومة الاحتلال آنذاك اريئيل شارون إلى الانسحاب من مناطق السلطة، ونتيجة لذلك خضع شارون للضغوط وأصدر أمرا لقواته بالانسحاب التدريجي من القرية.
عقب تفجير المنازل الثلاثة والانسحاب، خرج الجميع لمواساة العائلات والوقوف إلى جانبهم، مؤكدين أن منازلهم مفتوحة لهم، وما أصابهم أصاب جميع أهالي القرية، وما هي إلا ساعات حتى كانت العائلات تقطن في منازل مقربين لهم، إذ وفروا لهم جميع ما يلزمهم.
انسحبت قوات الاحتلال بالكامل من بيت ريما فجر يوم الخميس 25/ تشرين أول، واعتقلت خلال الاجتياح ما يقارب 50 مواطنا، تم إطلاق سراح معظمهم، وبقي 11 منهم رهن الاعتقال، وكانت القناة الإسرائيلية الأولى والعاشرة تبث مشاهد الاعتقال.
اجتياح القرية جاء بعد أسبوع من عملية اغتيال وزير السياحة الإسرائيلي آنذاك رحبعام زيئفي، والتي نفذها مجموعة من مقاومي الجبهة الشعبية، لكن في تلك الفترة لم يكن معروفا من هم المنفذون بعد، وعقب الانسحاب من القرية بدأت وسائل الاعلام تستعرض مشاهد الاعتقال لتنقل خبرا يفيد باعتقال الخلية التي نفذت اغتيال زئيفي.
يقول المختص بالشأن الإسرائيلي علاء الريماوي والذي كان معتقلا حينها، "قبل الاجتياح بعدة أيام بثت وسائل الإعلام العبري عشرات التقارير والتصريحات لشارون وقيادة المؤسسة العسكرية والأمنية عن قرية بيت ريما، والتي وصفوها بأنها إحدى "أعمدة الارهاب"، ومنها خرج شخصيات نفذت عمليات اغتيال كبيرة، وذكروا منها أسماء منفذي عملية اغتيال زئيفي، وعبدالله البرغوثي وبلال البرغوثي".
ويضيف أنه تبع ذلك حركة غير مسبوقة لعملية اعتقال مواطنين من القرية، لا سيما على الحواجز، ومن ثم أعقب ذلك اجتياح القرية، لتكسر بذلك حكومة الاحتلال قواعد منطقة "أ" في أول عملية لـ "السور الواقي" ومن ثم تسلسلت لتشمل الضفة الغربية.
ويوضح الريماوي لـ قُدس الإخبارية، أن شارون كان يهدف من خلال الاجتياح لاعتقال بلال وعبدالله البرغوثي، ومنفذي اغتيال زئيفي الذين تمكنوا من الاختفاء، مجدي الريماوي، وباسل الريماوي وحمدي قرعان، وحاول أن يصنع انتصارا من خلال الترويج أنه وصل لجماعات مقربة من حماس تدير مخابئ لعبدالله البرغوثي، وأنه تمكن من اعتقال خلية اغتيال زئيفي، لكن في الحقيقة من تم اعتقالهم بالاجتياح ليس لهم أي علاقة بذلك.
وأشار إلى أن اجتياح القرية كانت عملية انتقام مدبرة نظرا لحجم الوجع الذي أحدثه مقاومو بيت ريما، إذ تمكنوا من قتل 76 إسرائيليا وجرح 542 في انتفاضة الأقصى، لكن شارون خرج بصفر كبير ولم يحقق أيا من أهدافه خلال الاجتياح.