نابلس – خاص قُدس الإخبارية: أول يوم يمضي والأب لم يعد إلى البيت بعد، بكاء وحزن يخيمان على العائلة، وأسئلة أطفاله لا تتوقف عن موعد عودته إليهم، ليقرر عدنان (خمس سنوات) أنه يجب حفر قبره وإخراجه ثم إرساله إلى المستشفى، حيث باستطاعة الأطباء "إصلاح" قلبه وإعادته للحياة مرة أخرى.. إنه حلم لا يراود سوى الأطفال غير الواعين لوجع الموت وفقد الأحبة.
عدنان يلح مجددا على حاجته لوالده أمجد السكري، يخطف هاتف والدته ويصر عليها الاتصال بأبيه؛ يحمل الهاتف منتظرا أن يرد والده ويوصيه كعادته على الحلوى التي يحبها، بغضب يعلق الطفل "أُف! بابا ما برد"، يرمي الهاتف ثم يعتزل في إحدى زوايا المنزل.
الأحد (31/كانون ثاني) الماضي ظهرا؛ بدأ أهالي قرية جماعين قضاء نابلس بالتجمهر حول منزل جاسر السكري، الذي غادر منزله لأداء صلاة الظهر في المسجد القريب، فيما بدأ الإعلام بتداول أخبار عن عملية فدائية نوعية قرب رام الله، لتعلم العائلة أن المنفذ هو نجلها أمجد السكري.
فعلى حاجز DCO المخصص لعبور الشخصيات الفلسطينية التي تحمل بطاقة (VIP)، أطلق أمجد السكري (34 عاما) النار من سلاحه على الجنود المتمركزين عليه وأصاب اثنين منهم من نقطة صفر، مستخدما مركبة وسلاحا يعودان للشرطة الفلسطينية التي ينتمي إليها منذ عام 2003.
"كان ككل يوم، فمن عادته أن يلقي السلام علينا قبل الذهاب للعمل ويشرب معنا القهوة.. لم نلحظ عليه في ذلك اليوم أي تغيير، كان طبيعا وعاديا جدا" يقول جاسر والد الشهيد أمجد، الذي ما زالت تحاصره الحيرة، كيف لم يلحظ أن ابنه يخطط لتنفيذ عملية فدائية، لن يعود منها إلا شهيدا.
"واعٍ، مدرك، طموح، ذو أنفة وكبرياء" يصف نجله الشهيد، الذي كان مختلفا عن أشقائه وأقرانه منذ طفولته، ليكون رحيلة كما كان حضوره؛ مميزا. يبدأ جاسر باستعادة الذكريات التي لا حصر لها وسط دموع لا تتوقف، وعينين تتفقدان كل لحظة أحفاده الأربعة العاجزين عن استيعاب رحيل والدهم شهيدا.
بتاريخ 28/تموز/1981، داهم أم عمر ألم الولادة، ليسارع زوجها لنقلها بمركبته إلى أحد مشافي مدينة نابلس؛ إلا أن المولود كان على عجلة من أمره للقدوم إلى الحياة، فولدته أمه قبل وصولها إلى المستشفى، تحديدا في قرية عينبوس، كما يروي جاسر، "صدمت مما حصل، وخفت كثيرا على ابني الجديد الذي أسميته أمجد، إلا أنه عاش وكبر حتى استشهد".
يمرر جاسر شريط الذكريات ثم يتوقف عند عام 2004، حيث كان الاحتلال يفرض حصارا خانقا على المدن الفلسطينية، ونالت نابلس وقراها النصيب الأكبر، فكان التنقل مرهونا بساعة معينة وبتصريح مرور، ما حال دون اتمام مراسم الزواج المتعارف عليها شعبيا لأمجد.
يقول، "استطعنا اقناع عائلة العروس، بإحضارها للقرية لتكون زفتها من أحد منازل العائلة في جماعين، وقد وافقت عائلتها في النهاية، حتى يقام لابنتها مراسيم زواج تليق بها كباقي الفتيات".
أسرة أمجد كبرت بإنجاب أربعة أطفال، أصغرهم لم يكمل الستة أشهر بعد، "سعادته بهم وحبه لهم كان شيئا فوق التصور، كان شديد الاهتمام والتعلق بهم"، ويظهر ذلك في جهاد نجل الشهيد (8 سنوات)، الذي اعتاد ومنذ استشهاد والده أن يستيقظ كل صباح ويقف أمام صورته ويؤدي له التحية العسكرية ثم يرسل له القبل.
تبحث في عينيه فتجده تجاوز سنين طفولته برحيل والده الذي كلما ذُكر اسمه اغرورقت عيناه بالدموع، لتراه ينسحب من المكان، يسمح دموعه ثم يعود، "أحبه كثيرا، كنا نلعب معا طوال الوقت، لعبتنا المفضلة رمي الكرات على بعضنا .. اشتقت له وأحلم به دائما" يقول جهاد، ثم يبكي ويخرج مسرعا من الغرفة.
"بيني وبينه عامين فقط، كنا مقربين من بعضنا كثيرا، كان لي الأخ والصديق وكل شيء" يقول مجدي واصفا علاقته بشقيقه الشهيد، الذي يسكن وإياه في ذات المبنى، "يعمل شاي أو قهوة، فيدق علي الباب ويناديني لأشرب معه، كما كنا نفطر أغلب الأيام معا، وفي الشتاء يشعل النار وينادي وأسرتي لنتدفأ معا".
ويستذكر مجدي يوم استشهاد شقيقه، حيث مر عليه في القرية قبل ذهابه للعمل، فأومأ بيده لكنه لم ينتبه له فألح عليه في السلام حتى أجابه، "أنا الأقرب عليه لم أشعر أنه يخطط لعمل شيء، ولم أتوقع أن شقيقي سيقوم بهذا العمل الفدائي ثم يستشهد".
عيونهم تترقب عودة أمجد رغم يقينهم بأنه رحل إلى جوار ربه، لكنهم ما زالوا ينتظرون أن يدق الباب صباحا ويرتشف معهم فنجان القهوة، الكل يتوه وينادي الآخر باسم أمجد، ففي كل لحظة يسترجعون ما يستطيعون من ذكريات جمعتهم وإياه.. يقول والده، "كان رجل العائلة، صاحب الموقف والقرار، رحيله أوجعنا كثييرا، إلا أنه حي فينا ولن ننساه".