بعد قرابة 10 سنوات من الحصار الإسرائيلي المتواصل وغير القانوني على قطاع غزة، بات من المخزي أن يكون تفاعل العالم مع مأساة الحصار هذه قليلاً لهذا الحد.
وشهدت مناقشات الأمم المتحدة مؤخراً حديثاً حول فرض الحماية الدولية مسؤولية الأمم المتحدة بذلك في كل من ليبيا وسوريا، لكن وخلال تلك المناقشات الطويلة لم يرد ذكر اسم غزة حتى ولو عرضاً على الرغم من رزوح سكان غزة على حافة الهاوية واقترابه من مراحل متقدمة في اليأس.
وهنا علينا أن نستدعي حقيقة أن الأمم المتحدة هي من تتحمل المسؤولية عن فلسطين في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، خاصة وأنها صادقت على منح بريطانيا وعداً بإقامة وطني قومي لليهود، عدا عن قيامها لاحقاً بعد الحرب العالمية الثانية باقتراح تقسيم البلاد بين اليهود والفلسطينيين دون الأخذ في الاعتبار أي رغبة للسكان الأصليين.
محنة غزة
اليكم هنا بعض الحقائق عن الوضع القائم في غزة الآن وكيف أثر على ساكنيها:
وصلت نسب البطالة إلى ما يقارب 43% وتركزت 60% من نسب البطالة بين الشباب، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تقدر ب 24% في عام 2015 مقارنة بما كان عليه عام 1994، ووصلت مستويات الفقر إلى 39% فيما وصلت نسبة انعدام الأمن الغذائي لقرابة 47%، وما لا يقل عن 90% من مياه غزة غير آمنة للشرب.
كل هذه الإحصاءات لا تحكي إلا جزءا صغيرا من القصة ومع ذلك تفشل في الإحاطة بكامل المحنة في قطاع غزة.
ولكونها مكتظة، تحولت غزة إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، فأكثر من نصف الـ 1.8 مليون شخص "قوام سكان غزة" يعيشون في المخيمات، وغالبيتهم لا يملكون أي وسيلة أو وثيقة للسفر حتى في حالات الطوارئ.
وإن لم يكن هذا سيئاً بما فيه الكفاية، فإن الظروف الأمنية اليومية تشكل صدمة حقيقية للمقيمين والزوار في بعض الأحيان أو حتى بعض عمال مساعدات الأمم المتحدة. هذا مع الطائرات بدون طيار التي تحلق في سماء المنطقة والقنابل الصوتية المتكررة في الطلعات الجوية الاسرائيلية، عدا عن حالات الاستهداف والاغتيالات التي تحدث من وقت لآخر.
أضف إلى ذلك منع سفن الصيد من ممارستهم أنشطتها والتضييق عليها بشكل متكرر من قبل زوارق الاحتلال العسكرية بالإضافة إلى الهجمات الصاروخية الانتقامية التي لا تعد ولا تحصى، كل ذلك حول حياة سكان غزة العاديين إلى جحيم لا يطاق منذ فترة طويلة.
وحتى هذا التقييم السريع تم دون إدراج الهجمات الضخمة التي تعرض لها القطاع خلال السنوات السبعة الماضية، ابتداءً من الهجمات العسكرية الجوية والأرضية والقوات البحرية ضد أهالي غزة الذين باتوا يبحثون دوماً عن مكان للحصول على مأوى أو الاختفاء من لظى الحرب.
وخلال الحروب الثلاثة (2008 - 2012 - 2014) تسببت الهجمات الاسرائيلية بنشر الموت والدمار على نطاق واسع وإحداث أضراراً واسعة في المناطق السكنية والبنى التحتية.
وبرز هذا الدمار بشكل أكبر إثر عدم السماح بإدخال مواد البناء إلى غزة، وتركت بذلك الآلاف بلا مأوى وحتى يومنا هذا، يعيش سكان غزة المدمرة بيوتهم في ملاجئ مؤقته تفتر إلى الكهرباء أو تنقية المياه أو الصرف الصحي في حالة غير مسبوقة من انقطاع الخدمات والفوضى.
وخلال الحرب الأخيرة فقط، والتي استمرت لأكثر من 51 يوما في صيف عام 2014، قتل أكثر من 2147 فلسطينياً بينهم 530 طفلاً، بينما فقدت "إسرائيل" 70 شخصا منهم 66 جنديا.
وبدون أي محاباة للفلسطينيين، فإن ما حدث خلال الحرب كان أكثر من مجرد مجزرة أو جريمة حرب، ربما الوصف الأدق لما حدث بأنه إرهاب دولة، وكما يدل الوضع في غزة فإن الحرمان والضغط على المدنيين وعدم منحهم فرصة الخروج من مناطق القتال ولو مؤقتاً أثناء بدء القتال أو الهجمات الإسرائيلية كان خير دليل على الإجرام الإسرائيلي.
الرواية الإسرائيلية
تدعي "إسرائيل" أن تصرفاتها في غزة تنبع من ضرورة التعامل مع لاعب سياسي "إرهابي" هو حماس، وتهدف من كل ذلك إلى حماية سكانها من الهجمات الصاروخية.
"إسرائيل" من جهتها ترفض الانتقادات الدولية لهذه الهجمات، وتصر على أنها لا تسعى إلى تدمير حماس، لكنها تريد أن تبقي ألماً كافياً لتهدئتها بشكل كبير.
وكما كان واضحاً عبر مقال افرايم انبار، الاستاذ الاسرائيلي في الدراسات الاستراتيجية، حين قال: "الفكر الغربي ينحى باتجاه ايجاد الحل، في حين دخلت اسرائيل صراعاً طويلاً مع حركة حماس، والحكومة الإسرائيلية حددت أهدافاً سياسية وعسكرية محدودة لهذا الهجوم وفقاً لما سمته بجز العشب".
هذه اللغة التي تقشعر لها الأبدان باتت الأكثر استخداماً من قبل باقي المستشارين وكبار قادة حكومة الاحتلال لتبرير سياسة "إسرائيل" في قطاع غزة بالإضافة إلى مصطلحات أخرى متعلقة بالأمن.
وعلى الرغم من سعي قادة الاحتلال إلى إرضاء واشنطن عن طريق إعطاء ضريبة كلامية لفكرة إقامة دولة فلسطينية إلا أن موقفهم الحقيقي ينصب لمنع حدوث ذلك، ولهذا السبب السياسة الاسرائيلية في التعامل مع غزة تعتمد على تعزيز مستمر عبر مجازر دورية لمواصلة التحكم بالقطاع.
الرفض الدبلوماسي
كان الابتعاد عن هذا التفاعل الدموي أمراً صعباً للغاية، وكانت تجربتي الخاصة في عقد عدة اجتماعات مع قادة بارزين من حماس لعقد هدنة طويلة تمتد لـ 50 عاماً.
ساندي تولان، مؤلف كتاب شجرة الليمون والصحفي المحترم، أكد أن فرص التوصل إلى اتفاق سياسي لحل مشكلة غزة تكررت كثيراً، لكن أمريكا و"اسرائيل" رفضتا الأمر مراراً وهو السبب الأساسي في جر الويلات على سكان غزة.
واقتبس تولان جزءًا من رسالة لاسماعيل هنية، نائب رئيس حركة حماس في غزة، كان قد أرسلها إلى جيروم سيغال من المنظمات اليهودية غير الحكومية الداعمة للسلام في عام 2006، بعد وقت قصير من فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، وهي رسالة وصلت لجورج بوش.
يقول هنية في رسالته تلك: "نحن معنيون في الوصول إلى أمن واستقرار في الشرق الأوسط و لا نمانع في قيام دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 كإجراء مرحلي ضمن هدنة طويلة الأمد"، مضيفاً: "أن استمرار الوضع هذا يشجع على العنف والفوضى في كامل المنطقة."
رفض بوش وقادة الاحتلال الرد على هذه المباردة بالرغم من نجاح تجربة سابقة بوقف إطلاق النار في غزة. وبعبارة أخرى، فإن أسرائيل والولايات المتحدة فضلتا نهج "جز العشب" على طرق سلام أخرى تعزز الاستقرار والأمن في المنطقة.
الواجب للقيام به
من الجدير بغزة أن تحظى بتقديرنا الحقيقي، فلا يمكن الاستمرار في تهميش غزة لحاقاً بسياسة السلطة، بعد التوترات في الضفة الغربية، لكن "إسرائيل" تفعل ذلك بوعي مطلق، مستمرة في الضغط على سكان غزة ووضعهم تحت جرعات عالية من الإجهاد.
وكما أكد المؤرخ الفرنسي جان بيار فيلو في دراسته التي نشرها بعام 2014 بعنوان غزة: "تاريخ، حيث كانت غزة أساس ملهماً للمقاومة الفلسطينية مذذ خمسينيات القرن الماضي، بما في ذلك تفجيرها لاحداث الانتفاضة الأولى عام 1987".
قلة يدركون أن غزة تملك تاريخاً غنياً يعود إلى أكثر من 1000 عام للوراء. حيث كانت مركزاً رئيسياً للتجارة والموانئ فضلاً عن كونها مركزاً دينياً معتبراً في العصور الماضية.
ومع صعود "داعش" الآن واشتداد المعارك في سوريا واليمن وانتشار الفوضى في ليبيا والقمع السلطوي في السعودية ومصر ودخلو روسيا كمنافس اقليمي للجميع، فانه من غير المستبعد ان تتمتع "اسرائيل" بمباركة المجتمع الدولي على افعالها الاجرامية.
الولايات المتحدة بدورها، أدارات ظهرها للصراع الفلسطيني الاسرائيلي مركزة جهودها على ايجاد حل دبلوماسي للاتفاق النووي الايراني.
لذا فليس من المستغرب في مثلل هذا الوضع الاقليمي أن تعيش غزة تجاهلاً كبيرا على الاقل خلال موجة العنف الاسرائيلية المقبلة وعلى الرغم من الانحرافات هذه الا أنه من غير المقبول الاستمرار بالسماح لغزة ان تظل جرحاً مفتوحاً.
لقد حان الوقت لحث الحكومات لفرض عقوبات على اسرائيلي حتي يتم رفع الحصار عن قطاع غزة، ويبدو أن هناك ثلاثة خطوات حتمية يجب أن تقام لتحقيق العدالة بالحد الأدنى واحترام القانون الدولي .
- السماح بإنشاء ميناء فلسطيني في المياه الدولية المقابلة لغزة وايجاد مراقبة دولية لمنع تهريب الاسلحة عبره.
- وضع حد فوري للحصار وغيره من اشكال العقاب الجماعي بما يتعارض مع المادة 33 من اتفاق جنيف.
- وقف اطلاق النار المتبادل بالتزامن مع انهاء الحصار الذي ان لم يتم انجازه في ثلاثة اشهر يجب أيجاد الية للحماية تحت رعاية دولية في غزة.
المصدر: ميدل ايست اي - ترجمة: هيثم فيضي