القدس المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: لا شيء يدل على حياة كانت هنا سوى مجموعة من العظام والجماجم البشرية، لا منازل في المحيط ولا آثار لحجارة مهدومة، فيما تواصل أشجار السرو نموها ملقية بذورها على الأرض لتنمو حولها.
تصرخ فلا يرد الصدى، فيما تهرب الطيور بعد أن تلعنك، كما اللعنات التي تسمعها خارجة من أرض قرية دير ابان التي لم يخطو عليها أصحابها بعد أن هُجِّروا منها عام 1948 على أمل العودة بعد أسبوع، الأسبوع الذي امتد (68 عاما).
الخطوات الأولى في دير ابان
لا أحد يعرف المشي في القرية كيوسف عبد الحفيظ دعامسة (78 عاما)، فكما يقول خارطتها مرسومة في ذهنه.
[caption id="attachment_82827" align="aligncenter" width="600"] تصوير: عمر غباري[/caption]يصل دعامسة القرية ليزور بداية الأرض التي كان عليها مقام منزلهم؛ عاجزا عن الكلام يقف دعامسة باكيا كبكاء ذالك الطفل ذي الـ (11 عاما) أثناء خروجه منها، يتذكر، "هذا البيت الذي ولدت فيه، هناك مغارة صغيرة محفورة بالصخر، وهناك خمسة درجات حفرناها أيضا بالصخر".
الحجر لا يتنكر لدعامسة ويثبت صحة كلامه، فها هي الدرجات الخمسة، وتلك المغارة الصغيرة المحفورة بالصخر، ويضيف لـ قدس الإخبارية، "ذاكرتي مازالت 100%، أحفظ كل شيء في القرية، حتى أني ما زلت أحفظ أماكن البيوت".
تحولت دير ابان لغابة مخيفة، تعمد المستوطنون زراعة أراضيها بأشجار السرو لإخفاء معالمها ومنع أصحابها من العودة إليها مجددا؛ فيما هدمت معالمها بالكامل وصودرت حجارتها لداخل المستوطنات.
عظام وجماجم مكشوفة
وفي الجهة الشرقية للقرية، يجد دعابسة ما تبقى من "الفستقيه" التي لم تبقى على حالها مذ ذاك الزمن، ويتساءل متؤلما، "لمن هذه العظام؟ هل هي عظام أبي؟ أم جارنا؟ أم احد الشهداء الذين دفناهم على عجل؟".
فطمعا بما قد يكون داخل "الفستقيه"، قام المستوطنون بهدم سقفها ونبشها، ثم ترك عظام الموتى مكشوفة، ويبين دعامسة أن الفستقية هي عبارة عن غرف مسقوفة محفورة داخل الأرض، كان في القدم يدفن أهالي دير ابان موتاهم بها، حيث كان فيها اثنتين، واحدة في الجهة الشرقية، وأخرى في الشمالية.
فيما يصف المحامي والناشط في مؤسسة فلسطينيات، جهاد أبو ريا لـ قدس الإخبارية، رؤية عظام وجماجم الموتى بشيء مؤلم يقشعر له الأبدان، مبينا، أن النبش في القبور كان بهدف البحث عن مجوهرات دفنت مع الموتى، لتترك القبور فيما بعد مفتوحة للكلاب والحيوانات البرية.
ويضيف، أن قرية دير ابان كباقي القرى المهجرة، لا يتم زيارتها والتعرف عليها والاهتمام بمعالمها، وهو ما أعطى الضوء الأخضر للمستوطنين للعبث بها، مشيرا إلى أنه لا يوجد تفاصيل دقيقة عن هوية الرفات الموجودة وعمرها، حيث تمنع سياسات الاحتلال دراستها والبحث فيها.
دير ابان والصمود
يواصل دعامسة الحديث عن قرية دير ابان لاعنًا الجيوش العربية التي دفعت أهالي القرية للخروج منها بعد أن قطعت لهم الوعد الذي لم تنفذه بأن العودة ستكون خلال أيام.
ويبين دعامسة، أن دير ابان صمدت أياما طويلة أمام حصار المليشيات الصهيونية لها، حيث كان أهالي القرية يتناوبون على حراستها والاشتباك مع المقاتلين اليهود المدربين الذين حاولوا اقتحامها، مشيرا إلى أن 36 شهيدا ارتقوا دفاعا عن القرية حينها، من بينهم والده.
فيما شارك أهالي القرية في معركة باب الواد الشهيرة، وهي المنطقة اللتي تبعد 35 كلم عن القرية فقط، حيث يروي دعامسة أنها كانت المعركة الفاصلة التي استكملت بعدها الميليشات الصهيونية احتلال باقي القرى بعد تهجير أصحابها.
وتمتد قرية دير ابان على أكثر من (200) ألف دونم، يقام الآن على أجزاء كبيرة منها مستوطنة "بيت شيميش" ومستعمرة "محسياه"، ولو لم تهجر القرية لأصبحت اليوم من كبرى البلدات الفلسطينية حيث يتجاوز عدد سكانها الموزعين في مخيمات اللجوء في الأردن وفي مخيم الدهيشة في بيت لحم، 35 ألف نسمة.
واشتهرت القرية بزراعة الحبوب والحمضيات والزيتون واللوز إضافة لتربية المواشي، كما أن كافة القرى المجاورة كانت ترتاد القرية لشراء الحبوب.
كما تحتوي دير ابان على ستة ينابيع مياه، ويروي دعابسة، أنه كان في وسط القرية "حاووز" مياه كبير، يستخدمه أهالي القرية لأمورهم الحياتية اليومية، لافتا إلى أن أهالي القرية ورغم بساطتهم إلا أنهم اهتموا في التعليم وبنوا مدرستين داخل القرية.
وقام دعامسة بتوزيع "يافطات" على أراضي القرية، لتعريف الزائر بما كانت تحتويه، "كان يوجد ساحة في وسط دير ابان يجلس فيها أهالي القرية يتسامرون، فيما كان يوجد منطقة تدعى المشار خصصت ليتخاصم ويتقاتل بها الأهالي".
من سيكرم موتى دير ابان؟
على قدم وساق تبدأ التحضيرات لتنظيم نشاطات تطوعية متواصلة، لترميم القبور وإغلاقها إكراما للموتى، فيقول أبو ريا، "من لا يحترم موتاه وماضيه، لا حاضر له"، مضيفا، أن الانسان يجب أن تصان كرامته بعد موته بدفنه، إلا أن المستوطنين ارتبكوا جريمة جديدة ضد الأموات الفلسطينيين.
ويؤكد أبو ريا أن مسؤولية المحافظة على القرى المهجرة وترميم ما يستطاع ترميمه من معالم تاريخية فيها، ملقى على عاتق فلسطيني الداخل المحتل الذي وحدهم من يستطيعون الوصول إليها في الوقت الحالي.
مقبرة دير ابان ليست الوحيدة التي نبشها المستوطنون واعتدوا على حرمة موتاها، فيبين أبو ريا أن (600) مقبرة إسلامية ومسيحية تم الاعتداء عليها، بنبش قبورها وهدمها، كمقبرة قرية البروة المهجرة والتي أقيم مكانها حظيرة للأبقار، ومقبرة مأمن الله في القدس والتي يزيد عمرها عن (1500) عاما.
هذا إضافة لمقبرة عسقلان التي هدمت وأقيم مكانها منازل سكنية، فيما جرفت مقبرة الاستقلال في حيفا لشق شارع استيطاني، وهو حال أيضا مقابر كثيرة في صفد وبيسان وطبريا، والتي طالتها اعتداءات الاحتلال ومستوطنيه.
"المقدسات والآثار في القرى المهجرة هي أمانة في أعناقنا ويجب أن نحافظ عليها لحين عودة أصحابها"، يقول أبو ريما، مؤكدا على أن جمعيتي فلسطينيات وذاكرات تبنتا مسؤولية ترميم مقبرة قرية ديرآبان بمشاركة مجموعة من المتطوعين كمبادرة لبدء مسيرة العودة.