رام الله - خاص قُدس الإخبارية: كلما رُفع العلم عن وجهها، أعادتا تغطيته مجددا، وأشاحتا بوجيهما إلى الخلف وهما تبكيان وترددان "لا لا"، فالصغيرتان ما زالتا تنتظران عودة أمهما حية كما خرجت؛ لتفشل محاولاتهما وتريان الوجه الذي كان يغطيه العلم، إنه وجه أمهما الحنون.
الصغيرتان تقتربان، والخوف يتلاشى ثم يتملكهما الهدوء، فيما تواصل أيديهما الزحف على جثمان والدتهما وصولا إلى وجهها، الذي غُطي بزهور تم انتقائها بعناية لتتفتح على وجنتيها في الوداع الأخير الذي سيجمع الشهيدة مهدية محمد ابراهيم حماد (40 عاما) بأطفالها وأقاربها وأهالي بلدتها.
فيما يطل أديب حماد زوج الشهيدة ليخفف من حزن طفلتيه أحلام (14 عاما) وملك (11 عاما)، وقد ظهرت بسمته الخجولة خلف دموعه المتساقطة قبل أن يلملماها وقواه، ويحمل والمشيعين جثمان رفيقة دربه إلى مثواها الأخير، حيث سيوصي الأرض عليها.
ففي يوم الجمعة (25/كانون أول)، أعدت مهدية وزوجها الغداء بعد أن قررا إقامة حفل شواء لأطفالهما للترويح عنهم قليلا قبل أن يبدؤوا بالتحضير للامتحانات نهاية الفصل الأول، ثم نظفت المطبخ جيدا قبل أن تخرج في زيارة خاطفة لمنزل شقيقتها، بعد أن أوصت طفلتها أحلام على العناية بشقيقها يحيى (أقل من عام) لحين عودتها.
لم تقرر مهدية زيارة شقيقتها إلا بعدما تأكدت أن المدخل الغربي لبلدة سلواد شرق رام الله لن يشهد مواجهات هذا اليوم، فقد سمعت ما قيل في خطبة الجمعة بأن الاحتلال يشترط تسليم جثماني الشهيدين محمد عياد وأنس حماد خلال الأسبوع مقابل وقف المواجهات، قبل أن يبدأ الاحتلال بدفع تعزيزاته العسكرية إلى المنطقة الساعة الثالثة والنصف عصرا.
نجل الشهيدة زكريا (19 عاما)، يروي أن والدته ذهبت في زيارة سريعة لشقيقتها لإرسال الحطب لها، لتدفأ بهم أبنائها المتوفى والدهم، فمهدية دائما تفكر بهؤلاء الأطفال كما تفكر بأطفالها، مضيفا، "أثناء عودة أمي واقترابها من المكان الذي تمركز به جنود الاحتلال، باشروا بإطلاق النار عليها دون أي سبب".
كانت مهدية تسير بمركبتها بسرعة بطيئة تقارب 20 كيلو مترا، حينما سلكت حارة النجار في البلدة للوصول إلى منزلها، ليمطر جنود الاحتلال مركبتها بأكثر من 40 رصاصة، 10 منها أطلقت عليها بعدما ارتطمت بجدار قريب، وقد أكدت وزارة الصحة أن تسعة رصاصات اخترقت الأجزاء العلوية من جسد الشهيدة، ما يشير إلى أن جنود الاحتلال تعمدوا إعدامها.
وتروي سميرة شقيقة الشهيدة، أن مهدية منعتها من تحضير القهوة مفضلة أن تجلسا سويا بضع دقائق، قبل أن تنصرف عائدة إلى أطفالها لتساعدهم بدروسهم، وتقول، "وعدتني أن تعود وتشرب معي القهوة في يوم آخر، تمشينا قليلا، وأصرت على العودة بسرعة لطفلها الصغير"، تجهش سميرة في البكاء، "كنت آخر من رآها وتحدث معها، أختي الحبيبة استشهدت".
تحمل الطفلة ملك شقيقها الرضيع يحيى لتبدأ تعلمه على خطواته الأولى، ومن يعلمه بعد اليوم سواها؟! تلاحقه في زوايا المنزل حتى لا يصيبه مكروه، بينما يواصل الزحف بسرعة مطلقا ضحكاته، وعلى الكنبة تجلس أحلام بصمت مبتسمة تراقب شقيقها الطفلان، مخفية ألمها، حزنها، ودموعها.
[caption id="attachment_81580" align="aligncenter" width="600"] الطفلة ملك تهتف في تشييع جثمان أمها الشهيدة[/caption]تتلفت كثيرا إلى الباب، منتظرة عودة أمها في أي لحظة، "وصتني على يحيى، وحكتلي راح ترجع ونروح عند دار سيدي" تقول أحلام، وتطرق سمعها للغرفة المجاورة حين ينام يحيى، "يحيى لا ينام إلا مع ماما، مش راح أقدر أعمله أشي إذا صحي في الليل".
كباقي أهالي البلدة، سمعت أحلام وأشقائها صليات الرصاص الحي التي أطلقتها قوات الاحتلال تجاه مركبة الشهيدة مهدية حماد، " كان عندي احساس غريب، لما أتأخرت ماما اتصلت على بابا وكان في صوت عياط (بكاء) كثير، وعرفت بعدين أنها أمي استشهدت".
شديدة الحرص والخوف على أبنائها كانت الشهيدة مهدية، "شعور صعب جدا، غياب أمي خلق فراغا كبيرا في حياتي، إني أندم كثيرا على إغضابي لها"، وتضيف أحلام، "أهم شيء الآن يحيى، يجب أن لا نشعره بشيء، ونعوضه عن أمي".
وعن والدتها تتحدث أحلام، "كانت حساسة جدا وقلبها طيب، وتحبنا كثيرا، وتلبي لنا كل ما نطلب، كان ايمانها بالله قوي وتصلي طوال الوقت وتدعونا لنصلي معها"، مضيفة، "كل الناس بعرفوها وبحبوها، كانت تشارك الجميع في أحزانهم وأفراحهم وتساعد كل حدا بطلب مساعدة".
وتروي ملك أنها عندما رأت سيارة الإسعاف قرب المنزل توقعت أن تكون والدتها حية بداخلها، إلا أنها لم تجدها هناك، "قرأت خبر عن عملية على التفزيون، فذهبت لمنزل جدي لأسأل، لأجد الجميع يبكي ويصرخ".
على عتبات المنزل، وقفت ملك تنادي "ارجعي يا ماما، ارجعي"، فيما واصل الجموع حملهم جثمانها وابتعدوا عن المكان، لتتمالك نفسها وتقود المسيرة النسائية وهي تهتف، "من سلواد أعلناها، مهدية نجمة بسماها.... عد رصاص وعد رصاص، مهدية بترفع الراس".