فلسطين المحتلة-قدس الإخبارية: كثيرون هم أصحاب الرأي الداعي للعودة الفورية والسريعة للمقاومة المسلحة المنظمة في محافظات الضفة الغربية، وزاد هؤلاء من دعواتهم وأصّروا عليها مع بدء الهبّة الشعبية منذ الأول من أكتوبر المُنصرم، لكن الحقيقة في رأيي تتمثل بأن إدخال "العمل المسلح المنظم" يقصّر من عمر أي هبة أو انتفاضة، ومن المعروف أن انتفاضات شعبنا الفلسطيني أبرز أهدافها تتمثل باستنزاف الاحتلال عبر استمرار الانتفاض أو الثورة ضده لانهاكه وصولاً للحرية، هكذا بدت معظم الثورات العالمية وحركات التحرر الأممية، أي باعتماد الشعب المظلوم على "حرب العصابات" كأسلوبٍ استراتيجي طويل الأمد للانعتاق من نير الاستعمار.
لكن معادلة الصراع في فلسطين مختلفة بأمور كثيرة لا مجال للخوض فيها بإسهابٍ، وأبرزها أن للأرض هنا وضعٌ استثنائي، ففي التجربة الهندية والفيتنامية وغيرهما الاستعمار دخل بجيوشه وفرض احتلاله، لكنه لم يُنشئ مستوطناتٍ مأهولةٍ ولم يدفع بالملايين إلى الأرض التي احتلها كما هو الحال في فلسطين، في إطار الحركات الثورية العالمية كان الشعب والثوار يقاتلون جنود الاستعمار العسكريين ولم يكن عليهم أن يُقاتلوا المستوطنين وأفراد الجيش معاً، إضافة لتحويل الضفة الغربية إلى كانتونات معزولة مفاتيحها بيد الاحتلال الذي بإمكانه تقطيع أوصالها وتجزئتها أكثر في أي لحظة.
بالعودة للموضوع الأصلي المتمثل بضرورة عدم الزج بـ"البندقية المنظمة" بشكل فوري وسريع مع بداية أي هبّة وضع عزيزي القارئ ألف خطٍ تحت "فوري وسريع"، يُلاحظ من التجارب السابقة لشعبنا الفلسطيني أن عدم اختيار التوقيت المناسب لإدخال السلاح المنظم أفرز نتائج سلبية وأسهم في استنزاف طاقات شعبنا الفلسطيني إلى جانب استنزاف الاحتلال لفترة قصيرة، مع أنه كان بالامكان فرض معادلات أكثر قوة على الأرض إذا ما استمر الاستنزاف لفترة أطول.
انطلقت الانتفاضة الثانية عام 2000 واستغرق دخول السلاح المكشوف لميدانها بضعة أشهر فقط، وأيضاً استغرق "تصعيد الاغتيالات بشكل جنوني" عدة أشهر بعد انطلاقة الانتفاضة، في حين أن الإمكانية كانت متوفرة لأن يقود الشعب بفصائله "موجة شعبية شاملة عارمة" دون "السلاح المنظم الواسع" لفترة أطول، عندما أقول ذلك فأنا لا أبرئ الاحتلال من ارتكابه للجرائم بحق شعبنا فالاحتلال يحمل صفته في كونه "إحتلالاً"، لكن جن جنونه وارتكب الجرائم أكثر وكثّف الاغتيالات بشكل خاص عقب اثخان السلاح والأحزمة الناسفة فيه، اليوم في عام 2015 بعد مرور 15 عاماً على انتفاضة الأقصى أثبت الشباب الفلسطيني أن بامكانه استنزاف الاحتلال وخلق الهوس الأمني لدى جيشه ومستوطنيه بأبسط الوسائل المتوفرة وبدون "السلاح المنظم"، عبر أسلوب "الذئاب المنفردة" أو العمليات الفردية، فلم يعد الشباب يحتاج لأن يكون مطارداً يبيت ليله في ترقبٍ وقلق ولم يعد مُجبراً على أن يقتات الفُتات من الطعام!، وليست هناك تعقيدات كثيرة مثل تلك التي تلزم العمل العسكري المنظم كالدعم اللوجستي وتوفير السلاح ووجود قيادةٍ سرية مصيرها أن يُميط الاحتلال اللثام عنها في النهاية.
وجود "السلاح المنظم" في الانتفاضة الثانية داخل الضفة الغربية جعل من الطبيعي وجود قيادةٍ معروفةٍ له، فلاحقها الاحتلال واغتال صفوتها ونخبتها ووجّه كثيراً من الضربات القاسية لها، ولعلّ مدينة نابلس جبل النار بأحيائها ومخيماتها وبلدتها القديمة هي أبرز مثالٍ دامغٍ على ذلك، فعام2003 شهد اغتيال الاحتلال لثمانية مقاومين من الفصائل الفلسطينية، عبر وسائل متعددة منها تفجير السيارات التي يستقلونها والقصف الصاروخي، بينما عام 2004 كان العام المفصلي و الأضخم من نوعه من حيث عمليات التصفية والاغتيال حيث سجلت الأشهر الثمانية الأولى منه إغتيال نحو ثلاثة وعشرين مقاوماً فلسطينياً في مدينة نابلس، أبرز عمليات الاغتيال كانت في "حوش الجيطان" حيث ارتقى سبعة قادةٍ فلسطينيين من عدة فصائل مختلفة، وفي نفس العام ارتقى معظم القادة الأوائل لأجنحة المقاومة المختلفة وتركوا فراغاً خلفهم، وكذلك فعل الاحتلال ولكن بوتيرة أسرع مع القادة الذين حلّوا مكان الأوائل، وبعد عامٍ واحد أو أقل من اغتيال معظم الصف الأول من القادة العسكريين عام2004 بدأت ملامح "السلاح المُنفلت" تظهر جلية في الميدان وكان من الصعب السيطرة عليها في ظل غياب قيادات المقاومة ذات الكلمة الحادة كالسيف، القيادات العسكرية الأولى الوزانة والحازمة والتي يحترمها الجميع.
من ناحية أخرى، إن استخدام السلاح المنظم بشكل واسع يُفقد الحاضنة الشعبية للثوّار دورها شيئاً فشيئاً، فتنحصر المقاومة في عددٍ محدودٍ من الأشخاص، حتى لو كانوا مئات من حملة السلاح في وجه الاحتلال داخل كل محافظة، يظلّون عدداً محدوداً مقارنةً مع مئات الآلاف من أفراد الشعب الحاضنين لأفكار الثورة والنضال والمقاومة، وبالتالي يُصبح انقضاض الاحتلال على الحالة الثورية أسهل كثيراً لأنه يتركز في قوائم أشخاصٍ مطلوبٌ من الضابط الاسرائيلي في كل منطقة أن يضع مقابل إسم كل مطلوب وعلى صورته إشارة X، إما قُبض عليه حياً وإما تمت تصفيته.
المتمسكون بخيار "الكفاح المسلح" أو "المقاومة المسلحة المنظمة" كخيار وحيد رئيسي، يقولون أنهم لا ينتقصون من دور "المقاومة الجماهيرية"، لكنهم يدركون في قرارة أنفسهم أن دور "الجماهيرية" يتراجع عند دخول "السلاح المنظم" لميدان المواجهة فهذه حقيقة حتمية، التغلب عليها يتمثل بالموازة ما بين كافة أشكال المقاومة واستخدام "السلاح المنظم" في الوقت الأنسب والملائم وليس فور انطلاق أي هبة، وهذا الأمر معقد ويحتاج إلى تكاملية وتخطيطٍ استراتيجي وخطواتٍ طويلة المدى وتعبئةٍ سليمةٍ للشعب، وبالنسبة لنقطة التعبئة والتوعية وتفحص التجارب السابقة فهي شبه معدومة في الظرف العادي، فكيف حالها عند اشتعال الوضع الميداني بحكم طبيعة التصعيد؟!.
عندما نتكلم عن تأجيل "السلاح المنظم المكشوف" لا يعني أن نلغي دور "السلاح الفردي" أو "عمليات القنص" المباغتة المُخطط لها، فهذه من أخطر العمليات الفدائية التي تجمع ما بين التعقيد والاستخدام الصحيح للسلاح.
إن مسألة "إدخال السلاح المنظم للمواجهة" يجب أن لا تسير بعشوائية وعاطفية، فمثلاً إذا دخل السلاح أي هبّة بشكل منظم ومكشوف منذ بداية انطلاقها فلنفترض أنها استمرت خمس سنوات، بينما لو دخل هذا السلاح بعد عامٍ من الهبّة فإنها تستمر عاماً آخر على الأقل، وهذا العام ليس مجرد 365 يوماً في ميزان معركة الاستنزاف مع الاحتلال، بل يعني أن تخسر حكومة الاحتلال كل يومٍ أكثر فأكثر، فالجندي الواحد من قوات الاحتياط يكّلف الاحتلال 500 شيقل في اليوم الواحد مثلاً!، وفق ما كشف الملحق الاقتصادي لصحيفة هآرتس العبرية في عدده الصادر في منتصف شهر تموز من العام الماضي.