القدس - قُدس الإخبارية: على بعد أمتار قليلة جداً من بيت الشّهيد بهاء عليان في جبل المكبر جنوبي القدس، أحد منفذي عملية الطعن واطلاق النار في حافلة إسرائيلية في 13 اكتوبر الجاري، تجدُ على يمينك كتلة اسمنتية غير واضحة المعالم. في البداية تظن أنها مجرد زوائد اسمنتية أهملت حتى يبست وشكلت تلك الكتلة. لكن، بعد تدقيق النّظر للحظات ستنتبه إلى أن هذه الكتلة الاسمنتية تخفي تحتها معالم بيتٍ صغيرٍ مُتواضع. في ذلك البيت عاش والد الشهيد بهاء عليان، المحامي محمد خليل عليان.
في العام 1975 حُكِم على محمد بالسّجن المؤبد في سجون الاحتلال بتهمة مشاركته في تنفيذ عمليات ضدّ قوات الاحتلال. في محاولة لردع الروح النّضاليّة ضدّ الاحتلال، قام الأخير بإغلاق بيت والد محمد ذاك بالاسمنت. قضى محمد في السّجن 10 سنوات فقط، إذ خرج محرراً ضمن صفقة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1985 المعروفة باسم صفقة الجليل.
عمل محمد بعد تحررّه بالصحافة والتصوير، ومن ثمّ التحق بالدفعة الأولى لكلية الحقوق في جامعة القدس ليصبح محامياً في المجال المدني، ويرافع اليوم في المحاكم الشّرعية في القدس، كما يستعد لإنهاء بحثه لرسالة الماجستير حول الوضع القانوني للفلسطينيين في القدس.
لقد أغلق البيت، بيت العائلة الذي يجمع الكلّ، نعم حصل ذلك، ولكن على بعد أمتار قليلة منه استمرت الحياة، بنى الأخوة بيوتاً لهم وفيها كبر الأولاد، وفيها كبر وتربى الشّهيد بهاء مع أخويه حسام وخليل وأخته أنغام.
في طريقنا لزيارة عائلة بهاء، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد سبقتنا إلى هناك لأخذ قياسات البيت تمهيداً لتفجيره أو صبّه بالاسمنت وإغلاقه. بثبات وتحدّي يرافق محمد، والد الشّهيد بهاء، جنود الاحتلال المقتحمين لبيته المتواضع. تبدو معالم وجهه شديدة الهدوء وهو يحدّثك عن بيته المهدد أو عن جثمان ابنه الذي لم يستلمه بعد. وقد استفز ذلك الهدوء والثبات أحد رجال المخابرات الإسرائيلية فسأله: “لماذا لا تبكي وتتأثر على بيتك؟”، ردّ محمد: “ذهب الغالي – أي بهاء – فلا شيء يستحق أن أبكي عليه بعده”.
شيئاً فشيئاً يعترف أمامك بأنه لا يجد وقتاً كافياً للحزن والبكاء على ابنه بهاء. يشرح ذلك بالقول: “في اللحظة الأولى لاستشهاد أي شاب، يُجبر والده على التماسك، يجب أن يتابع اقتحام الاحتلال لبيته، اعتقاله، اعتقال أولاده، التهديد بهدم البيت، جثمان الشهيد، العزاء، الإعلام..أن تتحول كوالد شهيد إلى بطل رغماً عنك في لحظات معدودة”.
[caption id="attachment_77399" align="aligncenter" width="600"] محمد عليان - والد الشهيد بهاء[/caption]الموقف صعب، ومحاولات الاحتلال كسر روح الصمود لدى عائلات الشّهداء لا تتوقف. لكن ذلك لا يعني التقصير في “حقّ بهاء بأبٍ يليق به وبشهادته”. يكابر محمد على الألم، يريد أن يكتمل عرس ابنه بالشهادة على أحسن وجه. كعادتهم، يسأله بعض الإعلاميين عن ابنه وصفاته وطموحاته، فيرفض الإجابة. يُذكّرهم بوصية ابنه بأن يتركوا الحديث عن شخصه وعن استشهاده وليبحثوا عمّا وراء استشهاده. ليس المهم هنا الحديث عن بهاء وشخصيته، إنما عن الثقافة التي يحيلنا إليها فعلُ الشّهادة. الفرد هنا ليس غاية، بل الجماعة التي انتمى لها ذلك الفرد.
يعبّر الوالد محمد عن ذات الوصية ويكرر مرة أخرى: “شهادة كشهادة بهاء تستدعي أباً يتصرف بما يليق بها”. أما عن هذا الذي “يليق” بتلك الشهادة، فيمكن فهمه من “الثقافة” التي يحاول محمد ترسيخها من حوله في أوساط عائلات الشهداء وفي المجتمع الفلسطيني ككلّ، وأمام الإعلام على وجه خاصّ.
“ثقافة الشهادة”
كان أحد معالم هذه الثقافة، إصرار محمد على الإفلات من سطوة أي تنظيم فلسطيني يحاول فرض حضوره في خيمة العزاء، فابنه بهاء “شهيد الوطن”. وعادة ما تقوم التنظيمات الفلسطينية باستثمار حالة الشهادة وذلك بتعليق أعلامها وصور قادتها السّياسيين وتحملها لتكاليف العزاء، دون أي اعتبار لهيبة الشهادة وجللها. لم يسمح محمد لذلك الاستثمار بموطىء قدم في خيمة عزاء ابنه.
لذلك كانت اللافتة الوحيدة التي عُلقت هناك هي الوصايا العشر التي كتبها ابنه بهاء قبل ما يقارب 10 شهور ونشرها على الفيسبوك. في ذلك الحين، موعد نشر الوصايا، كانت القدس قد عاشت شهوراً من المواجهات ضدّ سلطات الاحتلال وعدداً من عمليات الطعن والدهس، كان أبطال إحداها الشهيدين غسان وعدي أبو جمل، أبناء قرية جبل المكبر. حسب تقديرات العائلة، قد يكون بهاء كتب هذه الوصايا بعد أن رأى في خيم عزاء الشّهداء ما لا يليق بمعاني الفداء للوطن ولا يرقى لمقام الشهادة، من تصرفات حزبيّة وإعلامية، فتقمص دور الشّهيد وكتب تلك الوصايا على الفيسبوك.
ثقافة الشّهادة أيضاً: رفض شروط الاحتلال
وفي ذات الخيمة، تحول “القادة والمسؤولون” إلى متفرجين، لم تنصب لهم منصات الخطابات، ولم تفسح لهم الصفوف الأولى، وكانوا إذا تحدثوا تحدثوا فقط بصفتهم الشّخصية لا تمثيلاً لأي حزبٍ أو منصب سياسي. كان القادة الحقيقيون في تلك الخيمة هم آباء الشهداء، سبقوا السّياسيين بمراحل وأبدوا مواقف أكثر ثباتاً وصدقاً وتحدياً.
بينما كان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو يجتمع بعدد من وزرائه في المجلس الوزاري المصغر لرسم الخطط والسياسات لردع أهالي القدس، كان الوالد محمد برفقة أهالي شهداء القدس الذين ما زالت جثامينهم محتجزة لدى سلطات الاحتلال يشكلون نمطاً جديداً في التماسك والثبات الوطني، كانوا حقاً يمارسون السّياسة النظيفة كما يليق بفلسطين وحجم تضحياتها.
خرج أهالي الشهداء في السابع عشر من اكتوبر يدافعون عن مستقبل الفلسطينيين جميعاً، وضعوا شروطهم أمام ذلك المجلس الوزاري المصغر. تحدث باسمهم الوالد محمد وأخبر الحضور بما فيهم السياسيين، أن أهالي شهداء القدس المحجتزة جثامينهم حتى اليوم لن يقبلوا تسلّم جثامين أبنائهم إلا سوياً، وأنه إما التسليم مرة واحدة لجميع الشهداء، وبدون أي شرط أو قيد، وإما فلتبقى الجثامين لديهم.
عندما قال محمد ذلك في خيمة العزاء، وعندما قاله في بيته للصحفيين، كان يردده بإيمان وصدق بادٍ في وجهه. لم تكن تلك الجرأة مجرد شعارات سياسية ملقاة بدون أي حساب. فلكل كلمة هنا وزنها، وذلك أيضاً من حقّ الشهيد “البهاء” على والده. يقول محمد: “كل أرض فلسطين قبر لابني، ولن أقبل أي شروط تفرض عليّ في دفنه ولو استمر ذلك طوال العمر..”، ومثله ردد أهالي الشهداء مصطفى ومعتز وعلاء واسحق ومحمد وغيرهم.
يبدو ذلك التحدي جريئاً أكثر من المعتاد، ولربما هو بعين “القيادة السّياسية” مجازفة أمام جبروت “الدولة التي لا تقهر”. لكن أهالي الشهداء بدأوا وانطلاقاً من القدس يقدمون نموذجاً جديداً، أدركوا أن سقف التنظيمات لا يرقى لنبل شهادة أبنائهم ولا لغايات تلك الشهادة. إذا كانت تلك الدولة “لا تقهر” فعلاً، فها قد قهرها بهاء، أغلق منزل جدّه بالاسمنت، لكنه خرج. وها قد قهرها علاء أبو جمل، هدم بيت ابن عمه غسان، وأغلق بيت ابن عمه عدي أمام عينيه، وها قد خرج، أحاط بمحمد سعيد علي أكثر من 4 جنود حاملين مختلف أنواع الأسلحة لكنه لم يتردد وخرج. فمن الذي يقهر هنا؟
أمام هذه الجرأة، يحرص الوالد محمد كذلك أن لا يتحول موضوع تسليم الجثامين لابتزاز تمارسه سلطات الاحتلال على أهالي الشّهداء. عندما قال له أحد المحققين “سنتصل بك عندما نقرر الافراج عن الجثمان”، ردّ عليه محمد قائلاً: “لا تتصل بي.. اتصل بالمحامي، هذا شأنه”.
ولم يمنع هذا التّحدي أهالي الشّهداء من مطالبة المستوى السّياسي الفلسطيني بممارسة دوره في الضغط من أجل الإفراج عن الجثامين المحتجزة، معتبرين أن خوض مثل هكذا معركة في أروقة القضاء الإسرائيلي قرار غير وارد، إذ أن الأمر في أصله سياسيّ أمنيّ، “يريدون أن يردعوا المجتمع عن مقاومة الاحتلال”، كما عبّر الأهالي.
محاولة كسر عائلات الشهداء
عدا عن احتجاز جثامين أبنائهم الشّهداء، وتهديد الأهالي بسحب بطاقات إقامتهم الإسرائيلية وطردهم من القدس، وهدم بيوتهم أو إغلاقهم، تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلي أن تجعل للشهادة “ثمناً نفسياً سلبياً” في نفوس أهالي الشهداء، تظنهم أضعف من أن يحملوه ويلقوه بعيداً. تبدأ تلك المحاولات منذ اللحظة الأولى لاعلان استشهاد أحدهم، فما أن تعرف هويته حتى يسارع الاحتلال إلى اقتحام منزله واقتياد أمه أو أبيه أو زوجته أو إخوانه للتحقيق، وعادة ما يترافق هذا الاقتحام بممارسة العنف الشّديد والاعتداء على أقارب الشّهيد وتدمير محتوياته بيته.
وخلال السّاعة الأولى من علمهم بمفارقة ابنهم واستشهاده على هؤلاء الصمود والثبات أمام محققي شرطة الاحتلال. في الغالب يرحل الشهيد وسّره في صدره، فلا معلومات حقيقية تقدمها هذه التحقيقات، إلا أنها تهدف بالدرجة الأولى إلى “كسر” صمود الأهالي واللعب بمعنوياتهم. في حالة الشهيد معتز عليان (16 عاماً) اقتادت شرطة الاحتلال أخويه الطفلين مصعب (15 عاماً) وهيثم (13 عاماً) للتحقيق، قال المحقق لأحدهما: “إذا لم تخبرني بما أريد سأطلق النار عليك”. وفي حالات أخرى، يتعمد المحققون إطلاق الشتائم والسّباب البذيء على الشّهداء وأهاليهم، ونعتهم بـ”المخربين والإرهابين”.
عدا عن التحقيق لبضع ساعات، بدأت سلطات الاحتلال بتطبيق إجراء تنكيلي جديد في محاولة لتدمير أي مقومات للصمود لدى أهالي الشهداء. فقد قامت مؤخراً بتحويل سمير أبو غزالة والد الشّهيد ثائر أبو غزالة إلى الاعتقال الإداري، كما اعتقلت الشاب ابراهيم مناصرة (17 عاماً) – شقيق الشهيد حسن مناصرة، ووجهت له تهمة الاعتداء على شرطي ومحاولة خطف سلاحه. أما المصابة المعتقلة شروق دويات، والتي يتهمها الاحتلال بتنفيذ محاولة طعن، فقد حوّلت شرطة الاحتلال شقيقها محمد (21 عاماً) إلى الاعتقال الإداري كذلك لمدة 6 شهور. وكان لعائلة الشهيد بهاء عليان نصيب من ذلك، فقد اعتقال أخوه حسام (25 عاماً) عدة أيام، ومن ثم أفرج عنه مع فرض الحبس المنزلي عليه لمدة أسبوع.
كما تتكاتف السّلطة الأمنية للاحتلال مع الذراع التّجاري له، إذ يقوم بعض أرباب العمل الإسرائيليين بتهديد أهالي الشّهداء ومنفذي العمليات بطردهم من وظائفهم، أو بطردهم فعلياً، في محاولة لإحكام التضييق عليهم، في حريّتهم وأمنهم وصحتهم، وكذلك في رزقهم ومعيشتهم.
وفي ظلّ هذه الظروف يبدو أن سلطات الاحتلال قد “أحرقت” جميع خياراتها مرة واحدة، فلم تبقِ اجراءً تنكيلياً بحقّ أهالي الشّهداء إلا وطبقته، إلا أن السّؤال حول مدى نجاحها في “توفير الأمن” لمستوطنيها يبقى مؤرقاً لها. ويبدو أن ذاكرة دولة الاحتلال قصيرة، أو ربما هي ذاكرة غبيّة، ففي حين أقرت حكومة الاحتلال في العام 2005 أن إجراء هدم بيوت الشهداء لا يؤدي غرض الردع المرتجى منه وتوقفت عن تطبيقه، ما زالت الحكومات المتعاقبة تعود وتقع في ذات “الفخ”، تربكها وتعمي بصيرتها “عقدة الأمن” التي تعيشها منذ قيامها، فترجع إلى ذات الإجراء الفاشل.
في المقابل، لن تمنع هذه الإجراءات أهالي الشّهداء من الصّمود واستكمال حياتهم، وقد دعا محمد والد الشهيد بهاء أهالي الشّهداء والمجتمع الفلسطيني بأكمله إلى عدم الاستسلام لمعاني الفقد والحزن، وإلى الاستمرار في الحياة والنجاح والبقاء على هذه الأرض. وقد أصرّ على أحد أصدقاء ابنه بهاء الاستمرار في اجراءات عرسه الذي كان يقع في نفس الأسبوع الذي استشهد فيه بهاء.
لقد حوّلت الإجراءات الإسرائيلية أهالي الشّهداء إلى صخرة صمود جديدة في المجتمع الفلسطيني وبالأخص في القدس، ففي حين غابت القيادة السياسية الحقيقية عن المدينة المحاصرة، تسارع أهالي الشّهداء إلى شدّ أزر بعضهم بعضاً، ففي كل خيمة عزاء لشهيد، كنا نرى أهالي الشّهداء يتوافدون لتعزية بعضهم بعضاً، يعرفون أن ألمهم وقضيتهم واحدة، وأن تحركهم يسبق بكثير تحرك أصحاب المناصب وأن تحركهم ذلك ورفضهم شروط الاحتلال ينتمي لفعل السّياسة في صورتها الجادّة الملتحمة بالشّعب.