شبكة قدس الإخبارية

ما يجب ان تعرفه عن الجغرافيا السياسية الكمية

هيثم فيضي

إعداد: هيثم فيضي

تتضمن محاولة التنبؤ بالشكل الذي يتجه العالم لاتخاذه بعد عدة سنوات مغامرة جرئية، فلا يمكن اعتبار ما سيتم التنبؤ به إلا حالة من حالات ممكن أن تتحقق و يلفها الغموض والاضطراب في أحسن الأحوال. فالعالم في هذا المجال لا يملك صوراً دقيقة للمراقبة او نقاط معلومات دقيقة تساعده على التنبؤ بأي شكل مستقبل للعالم الجديد. ولكنها تبقى الغريزة الإنسانية والمحاولة الحثيثة من أجل بذل جهد حقيقي في رسم صورة حية للمستقبل بعد استغلال كل تجربة انسانية سابقة و استعمال كل المعطيات المتوافرة حالياً.

يعتمد التحليل والتنبؤ في عالم الاستخبارات والتخطيط العسكري على الأمور المسلمة والمعروفة، فكلما كانت الحقائق التي بنيت عليها التخمينات واقعيه كانت الاستنتاجات أٌقرب إلى الواقع. وعلى سبيل المثال، فإن تخمينات تعتمد على محاور واقعية كوجود تهديد نووي إيراني و تصاعد قوة "الجهاديين الإسلاميين" و صعوبة دحرهم، و الأطماع الروسية في أوروبا الشرقية ومغامراتها العسكرية هناك، تكون أدق بكثير من تلك التي تعمل على تصوير روسيا أنها مفككة داخلياً و ضعيفة، أو تدعي وجود تحالف حقيقي يجمع ايران و امريكا لصد خطر الجهاديين في الشرق الأوسط. والفرق هنا أن الاستنتاجات التي تعتمد على ما يحدث على الأرض أدق بكثير من الاستنتجات التي تعتمد على ما يرغبه المحلل او الدارس.

وفي عالم التجارة و الأعمال، فإنه أسهل بكثير على الدارس أن يبني قراراته و تحليلاته على ما هو معروف في البيئة المحيطة به، كانخفاض أسعار النفط وارتفاع سعر الفائدة. يواجه المحللون عادة اتهامات بالتقصير وعدم الموضوعية  بسبب ما يوصفون به بعدم إعطاء دراسة الوقائع و الافتراضات المعاصرة حقها الكافي في أي محاولة لاستشراف المستقبل و التنبؤ به، و بالتالي فإنهم يضعون من يعتمد على دراساتهم في مواجهة الكوارث دون أي تحذير أو تجهيز. اعتاد أحد الجنرالات الأمريكيين القول من شدة إحباطه: "نكتشف بعد كل مواجهة أننا لم نمتلك إلا خرائط خاطئة و لم نستخدم إلا لغة خاطئة.

من هنا يواجه العالم في هذا المجال تحد حقيقي يتمثل في محاولته الخروج من هذا المأزق النفسي و إرساء جسور الثقة بينه وبين المستقبل المجهول من جهة وبين من يستفيد من دراساته من جهة أخرى. من وجهة نظر عملية صرفة، قد يحتوي النهج الفلسفي الذي  تعتمده ميكانيكا الكم طريقة عملية، او بعض الإرشادات على الأقل من أجل ايجاد حل لهذه المشكلة.

سيطر هاجس العلاقة المعقدة بين الزمان و المكان على العديد من الفيزيائين العباقرة من أمثال ألبرت اينشتاين و لويس دي بروي و شرودنجر اروين. و استمرت المناقشات حول هذا الموضوع ردحاً طويلاً من الزمان بينهم، إلان أننا نستطيع الاستفادة في مجال بحثنا هنا من بعض المبادئ الأساسية للفيزياء الكمية و التي استخدمها هؤلاء العلماء في دراستهم للأجسام الذرية و الأجسام دون الذرية و طرق تصرفها في الأبعاد المختلفة.

العلاقة بين القوانين الكمية والكيانات السياسية

وصف اينشتاين "الزمكان" بأنه نسيج ناعم يتداخل مع الكائنات و الأجسام في الكون. و بالنسبة له كان الفصل بين الماضي والحاضر والمستقبل على اعتبار أنها وحد زمان مستقلة مجرد أوهام و عناد من الناس. و انطلاقاً من مبادئ آينشتاين، قام العالم الفيزيائي الأمريكي والحائز على جائزة نوبل للفيزياء أيضا "ريتشارد فاينمان"، بتركيز دراساته حول كيفية نقل الجسيمات من نقطة إلى أخرى عن طريق الموجات فقط و وفق عدد من المسارات المحتملة، يتضمن كل منها سعةً معينة.

و بعبارات أخرى، فإن نظرية فاينمان، تتحدث عن أن الأجسام لا تتحرك وفق مسار خطي ثابت، بل إنها تتحرك إلى أعلى و أسفل و تدور حول نفسها في الفضاء، و تعمل الأجسام خلال حركتها على تجنب مسارات الأجسام الأخرى، من خلال تعزيز أحد مساراتها أو إلغائه تماماً. و وفقاً للنظرية، فإن المسار الذي يتبعه الجسم في النهاية عبارة عن مجموع كل سعة المسارات الممكنة و المختلفة عبر التاريخ لذاك الجسم أياً كان.

في سلوك المجتمعات، تتبع الدول القومية وما قبلها خط سير وتطور مشابه لذلك الذي وصفه فاينمان في نظريته لتحرك الأجسام. و عبر التاريخ فقد رأينا العديد من الدول و الامبراطوريات في حالات تقدم و تراجع مستمر بتردد مختلف. و من المحتمل أي يحدث تقاطع بين دولة و أخرى، بحيث تهيمن الدولة القوية على تلك الضعيفة. و بإمكان دولة  أن تدعم أخرى وفق خط تطور كل واحدة منهم.

وتختلف سعة وقدرة موجات التغيير والتطور تلك من منطقة إلى أخرى، فدول أمريكا اللاتينية تعيش تحولاتها الخاصة بسرعة مشابهة لسرعة السلحفاة إذا ما قورنت بسرعة وسعة موجات التحول والتطور والتغيير في مناطق كالشرق الأوسط على سبيل المثال.

نظرية الكم التطبيقية: تركيا نموذجا

على اعتبار ان الدولة القومية هي المنظم للعصر الحديث، فانه بالاعتماد على مبادئها ونظرياتها الخاصة كالاعتراف بانتشار الحدود المصطنعة بين الدول و التسليم بوجود دولة بدون قومية و قومية بدون دولة، فإن مسار تطور الدولة الظاهري سيكون غير محدد، إلا أن دراسة أعمق في إحتمالية تطور الدولة وفق مسار أو آخر تمكننا من تحديد و رسم صورة أدق لمستقبل أي كيان سياسي حديث.

تتمثل الخطوة الأولى في هذه الدراسة بتأكيد بعض المسلمات والمبادئ التي صبغت طبيعة تصرف الدول على مر الأزمان، بغض النظر عن أي أيديولوجية أو شخصية حاكمة. تتمثل هذه المبادئ بحتمية السعي للوصول إلى البحر و السيطرة عليه، و السيطرة على طرق الوصول البرية الرابطة بين الدول لنقل البضائع وامتلاك أراض خصبة  تجذب الكثير من الاستثمار و تعمل على توفير قدر معين من الثروة و الاحتياطي لتأمين وجود الدولة .

يمثل تاريخ أي دولة وسيلة جيدة لاختبار وفحص الطرق التي انتهجتها الدلة في سبيل الوصول إلى تلك المتطلبات الأساسية و ما طبيعة الظروف و الأخطاء التي دفعتها لإهمال هذه المطلبات الأساسية. و ما هي الظروف التي أجبرت هذه الدولة على على الفشل أو الإزدهار أو تجنب صدام ضخم لا طاقة لها به أو تمكنها من حفظ سلام نسبي داخلي بين مواطنيها.

وخلال أخذنا لكل هذه المعطيات و الحقائق، نعمل على إثراء معرفتنا بقدر كاف من الموروث الشعبي المتمثل بالحكايات و الشعر و الأغاني. نهدف من كل هذا إلى رسم صورة واضحة للحاضر متأثرة بإيحاءات الماضي. و يأتي بعد كل هذا الجزء الأصعب من مهمة الدارسين و المتمثل بامتلاك الشجاعة الكافية للتحديق في المستقبل و العمل على استشرافه مع التحلي بقدر عال من الانضباط للتمكن من اكتشاف المعوقات المتوقعة هذا بالاضافة إلى امتلاك مخيلة واسعة قادرة على رؤية الاحتمالات و تصورها.

ولو درسنا حالة تركيا على سبيل المثال، فطالما أظهرت النخب السياسية الأمريكية و الأوروبية بل حتى بعض الشرق أوسطية هوسها بتركيا  و علاقتها بالاسلاميين و عدم قدرتها على مطابقة أقوالها بالأفعال بما يتعلق بمنافسيها الإقليمين كإيران و روسيا. حرص الغرب في تعامله مع تركيا على أن لا يعطيها فرصة لعب دور إقليمي كبير و ذلك بسبب انشغالها بمشاكلها الداخلية و ميولها القوي نحو الجماعات الإسلامية في نفس الوقت. و لكنها تتصدر المشهد الآن من جديد، و عودتها هذه لم تتبع مساراً خطياً ثابتاً، بل خضعت لكثير من التحولات و التموجات في طريقها لاستعادة مكانتها كلاعب اقليمي اساسي. و لا يمكن بأي حال إهمال أهمية موقع تركيا الاستراتيجي كحلقة وصل بين آسيا و أوروبا و سيطرتها على الطرق البحرية بين البحرين الأسود و الأبيض.

لكن، في ظل هذه النظرة لتركيا، كيف لنا أن نفسر شنها لغارات استهدفت معاقل داعش و المتمردين الأكراد، و عزمها على المضي قدماً في انشاء منطقة عازلة شمال سوريا . أحداث كهذه  و انتقال تركيا من التأثير الخجول على السياسات الخارجية نحو فعل سياسي ذا قيمة تعطي انطباعاً لدى من كان ينظر اليها نظرة متواضعة في السابق على أنها لاعب إقليمي و ربما دولي أساسي.

ولتفسير ذلك، علينا النظر ملياً في الماضي البعيد، حينما انطلق الإسكندر الكبير عبر بوابات كليكيا( قيليقية) القديمة للحصول على ميناء طبيعي على سواحل شرق المتوسط، و أصبح اسم هذه المدينة اليوم( الاسكندرية على سواحل مصر)، و لم يتوقف طموح الوصول إلى الماء هنا، بل عمل أيضاً على السيطرة على المدينة القديمة ( أنطاكية) الواقعة على مدخل منطقة وادي نهر العاصي الخصبة و انطلق منها إلى بلاد ما بين النهرين. و سريعاً بقفزة تاريخية كبيرة نستذكر كيف قام الأتراك السلاجقة لاحقاً بالسيطرة على مدينة حلب في القرن 11 وصولاً إلى انهيار الامبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى و استخدام الأتراك كل الطرق الدبلوماسية الممكن  من أجل الحفاظ على أراضي انطاكية و اسكندرونة ضمن حدود الدولة التركية الناشئة بعد الحرب، و اللتان باتت تعرفا الآن بمحاظة هاتاي الواقعة على الحدود التركية السورية.

و للوصول إلى فهم أعمق، علينا النظر إلى معطيات الماضي و الحاضر بشكل متوازي. فبالنطر إلى الخريطة المعاصرة لتركيا سنجدها غريبة جداً و غير متناسقة مع ظهور محافظة هاتاي كالندبة في الجنوب، لكن لو تمعنا في امتدادها شرقاً إلى مدينة حلب، المعروفة بكونها مركزاً تجارياً تاريخياً لبلاد الشام، و ما بعدها من امتدادات عبر مناطق تواجد الأكراد حتى الأراضي العراقية و مدينة كركوك الغنية بالنفط، سنجد أن هذه المناطق مجتمعة كانت تشكل ما كان يعرف بمحافظة الموصل العثمانية.

و بنظرة مستقبلية، سنجد أن لتركيا مصحلة حيوية في شمالي العراق و سوريا، و هذه المصلحة ليست ناشئة بسبب تواجد داعش هناك و مواجهتها، بل إن مصلحة تركيا تتمثل في تعزيز و تقاطع الموجات الجيوسياسية المتعددة من أجل خلق قوة خفية تساعد أنقرة على اعادة تمركز حدودها المعلنة و غير المعلنة لما وراء الأناضول. و من أجل فهم مدى قدرة تركيا و سيطرتها في المنطقة علينا أن ندرس طول الموجات المتقاطعة المنبثقة من بغداد و دمش و موسكو و واشنطن و أربيل و الرياض على اعتبار أنه هذه الموجات هي الأكثر تأثيراً في المنطقة.

بالنسبة لسوريا، فإن تأثير الصراع الدائر على أراضيها سيضعف من إمكانية تأثيرها على طموحات تركيا في شمال سوريا، لكن ايران تمتلك ما يمكنها من أن تقف في وجه طموحات تركيا في كردستان العراق و دفع طموحات تركيا بعيداً عن الشرق. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن توجهها واضح نحو تخفيف أعبائها الثقيلة في الشرق الأوسط، لكنها ستعمل على تحقيق التوازن المستمر ضد روسيا في المنطقة، و يبدو أنها ستقدم دعماً محدوداً للطموحات التركية في المنطقة. و يبدو أن لاعبين آخرين في المنطقة كالسعودية سيعملون على مواجهة الطموحات التركية و العمل على حد النفوذ التركي في مناطق ما بين النهرين و بلاد الشام.

و في الوقت الذي تملك فيه روسيا القدرة على إبراز قوتها العسكرية في الخارج، فإن التحركات العسكرية التركية في أوروبا و منطقة القوقاز تعمل على إشغال روسيا لبعض الوقت.لكن الانتقال الدينيماكي الحقيقي بالنسبة لتركيا سيكون فور انشغال روسيا بصراعاتها الداخلية بشكل أكبر و توسيع تركيا لمجال نفوذها و تمددها في منقطة البحر الأسود.

تفكير خارج الصندوق

هذا التفكير للطموحات التركية في المنطقة ليس ثابت أو حتمي، لكنه ببساطة منتج من وضع عدسة أكبر لرؤية مسار الدولة التركية بشكل أكثر وضوحاً. و كدارسين للتطورات السياسية و الجغرافية، علينا أن بضع الإفتراضات المختلفة موضع إختبار بشكل متواصل. عن طريق عرضها المتواصل على المعلومات الواردة بشكل مستمر من أجل تحسين التوقعات و الاستنتاجات قدر الإمكان.

سيخبركم أي تحليل كمي أن ليس ما هناك ما هو حتمي الوقوع و نحن لا نستطيع أن نعرف على وجه اليقين مدى إمكانية تحقق تنبؤات نضعها وفق المعلومات المحدودة التي نملكها. جل ما يمكننا فعله هو أن التنبؤ باحتمال وقوع أمر ما، هذا التبؤ بدوره سيستمر في التفاعل مع الأحداث مع مرور الوقت. و كما يقول ستيفن هوكينغ: "يبدو أن اينشتاين أخطأ حينما قال "أن الله لا يلعب النرد" بكل تأكيد فإن الله لا يلعب النرد، لكنه يخلط الأوراق أمامنا بشكل كبير حتى يستحيل علينا الوصول إلى استنتاج منطقي و صحيح بعد ذلك."

يمكن تطبيق نفس العملية على المد والجزر الواقع في الشرق الأقصى، حيث تقع اليابان بين الصين القوية و كوريا المقسمة بشكل صناعي، أو الشد والجذب الواقع بين فرنسا و ألمانيا على البر الأوروبي كي تستوعبه قوى الاتحاد الاوروبي الجاذبة.

في كثير من الأحيان، ننظر الى المستقبل كما ننظر الى الماضي مستخدمين عدسة الحاضر المشوهة. هذا خلل فطري في غريزة الانسان، و علينا أن نحاول التغلب عليه بشكل مستمر. سيحتوي المستقبل على العديد من القيود و الاحتمالات و التنبؤات، لكن أياً كان الوقت أو التوجه او العمق الذي نحاول التنبؤ بشأنه علينا أن نستحضر دوماً نظرة شاملة تضم الماضي و الحاضر و المستقبل بشكل متوازٍ من اجل الوصول إلى استنتاج حقيقي يفيدنا في استشراف العالم القادم.