قدس الإخبارية-أكرم النتشة: ربما لم يتعرض مفهوم فلسطيني للانتهاك والجدل كما يتعرض له مفهوم المقاومة واستخداماته المتعددة. عادة ما تحمل المصطلحات مفاهيما متعددة تكون متقاربة أحيانا لكن في قضية المقاومة باتت أمام إرباك وجدل جديد على الساحة الفلسطينية خاصة في الفترة الأخيرة.
فجر تلفزيون فلسطين الجدل حول مفهوم المقاومة بعد بثه لأغنية تتحدث عن المقاومة السلمية وربما تكون أخطر الأبيات التي دار الحديث حولها "ازرع زيتون ازرع ليمون ازرع تفاح ... مقاومتنا سلمية وبدون سلاح"، وبعيدا عن الفشل الإخراجي للأغنية والضعف البصري وإنتاج الفيديو كليب من خلال ترتيب لقطات أرشيفية للنكبة ولزراعة الأرض دون أي منطق إخراجي أو سرد بصري لحكاية فقد فجرت الأغنية الجدل حول السلمية والمقاومة والسلاح.
الأغنية حاولت تصوير الزراعة كأداة للمقاومة لكن الإشكال هنا أنها وضعتها كأداة وحيدة ضمن مقاومة سلمية لكن الأخطر هي نزع الشرعية عن بقية أشكال المقاومة التي ترى في حمل السلاح الطريق الى التحرير. وهو الأمر الذي يناقض التاريخ والحاضر الفلسطيني ويناقض بكل بساطة كافة القوانين التي تسمح بمقاومة الاحتلال بكافة الأشكال.
الجدل لا يعني أن رافضي الأغنية ومؤيدي المقاومة المسلحة يحملون السلاح او يتأهبون للانقضاض على الاحتلال فأغلبهم مؤيدون وليسوا ممارسون لهذا الشكل من المقاومة وغير مستعدين لممارسته، وربما لا يمارسون الأشكال الاخرى من المقاومة التي تعد أقل تكلفة وعبء من المقاومة المسلحة. لكن الحديث عن المقاومة هو مس بمقدسات فلسطينية.
تتلاعب الجهات الفلسطينية بمفهوم المقاومة وباتت كلمة المقاومة وحدها غير قادرة على التعبير عن الاتجاه والبرنامج السياسي والاجتماعي للفصائل، اذ بات إقران المصطلح ووصفه ضرورة حتمية. وتتدرج هنا الفصائل في وصف المقاومة بالسلمية أحيانا او اللاعنيفة أحيانا أخرى او مقاومة شعبية وأخيرا مقاومة مسلحة. يعبر كل وصف عن برنامج سياسي مختلف يصل الى درجة التناقض بين مقاومة مسلحة وأخرى بدون سلاح.
يستخدم الخطاب الرسمي الفلسطيني مفهوم المقاومة السلمية وفي أعلى سقف له يتحدث عن مقاومة لا عنيفة ضمن حظر الاشتباك مع الاحتلال، لكنه عمل على إرباك المفهوم ليس فقط من خلال الأداء الإعلامي ولكن ايضا من خلال الفعل الميداني الذي نزع الدسم عن أي شكل من أشكال المقاومة ليصبح أي فعل يومي مقاومة سلمية دون الحاجة الى الاشتباك مع الاحتلال حتى ميدانيا.
العمل الشعبي يتراجع في المفهوم الرسمي للمقاومة السلمية وينحصر في اجتماعات وسط المدن الفلسطينية على الأغلب تكون تأييدا لقرارات وخطوات قيادة السلطة الفلسطينية.
في الخطاب الإعلامي والذي تمثل الأغنية محور الحديث عنه والمثال الحاضر يحاول تصوير العمل اليومي الفلسطيني كمقاومة، ليس فقط الزراعة وإنما ايضا الوظيفة والتجارة وأي عمل من ضرورات الحياة يصبح مقاومة وقد تصبح شربة الماء اليومية او النوم في الليل عملا مقاوما.
لبيرز الخلط بين مفهومي الصمود في وجه الاحتلال والذي يمارسه الفلسطيني بفطرته ولا يحتاج الفلاح الفلسطيني اي تبرير له بزراعة أرضه والتمسك بها في وجه المصادرة وبين مفهوم آخر معاكس تماما لذلك هو التعايش السلبي مع الاحتلال والذي عمل الخطاب الإعلامي للاحتلال لسنوات لزرعه في العقل الجمعي الفلسطيني ليتعايش مع الأمر الواقع.
لكن المضحك على الارض وفي الميدان فإن الجانب الرسمي لا يبالي بالزراعة التي تخاطبها الأغنية كاداة مقاومة ويخصص للزراعة أقل من واحد بالمئة من موازنة الحكومة الفلسطينية والمدهش هنا أن جزءا يسيرا من هذه الواحد بالمئة يذهب الى الاراضي المهددة بالاستيطان اذا لم تتم زراعتها وتذهب معظم موازنة الزراعة كرواتب كما هو الحال في معظم وزارات الحكومة الفلسطينية. لذلك من الطبيعي ان يكون كليب الاغنية فاشلا حتى صوت المطرب لا يطابق شفتاه.
الخطاب الرسمي الفلسطيني هنا ينزع الشرعية بكل بساطة عن المقاومة المسلحة بل ويجرمها في ممارسة الأمن الفلسطيني الذي يعد اقتناء السلاح جريمة ولا يدعم هذا الخطاب حتى أشكال المقاومة الشعبية التي تعتمد الاشتباك الشعبي مع الاحتلال من خلال المسيرات والمظاهرات ويقف صامتا أمام غزو منتجات الاحتلال للأسواق الفلسطينية لا يدعم مقاطعتها. وفي المقابل فإن البديل الذي يقدمه بالمقاومة السلمية مفهوم مرتبك مع سبق الإصرار يتناقض فيه الحديث الإعلامي المشجع للزراعة مع الفعل على الأرض والذي يقتل الزراعة كأداة حياة فضلا عن سحقها وتركها كأداة مقاومة.