شبكة قدس الإخبارية

في غزة مهرجان ألوان أيضا!

أديب بركات

لكلّ مجتمع إنساني شكله الثقافي والفكري والتقليدي, اختلاف ما يعبّر عنه بالعامية بالقول:"أصابع إيدك مش وحدة", وغيرها من التعابير الدالة على التركيبة المتنوعة من القناعات التي يعتنقها أبناء المجتمع الواحد, من غير أن ننسى أن هنالك دائما ثقافة سائدة تمثل الأغلبية, وأخرى متنحية تتبناها مجموعات من الناس داخل التشكيلات الاجتماعية, وفقا لعوامل مختلفة، وظروف خاصة محددة.

عملية إبراز أفكار مجتمع معين وخصائصه مرتبطة عادة بمدى تهيئة الظروف لتلك الأفكار من أجل أن تصبح على رأس قائمة الأولويات, وفي الغالب فإن الجهة الحاكمة في مجتمع ما هي التي تقوم بهذا الدور من خلال رعاية مجموعة سلوكيات وأنشطة وبرامج، وتسليط الضوء على زوايا ثقافية مقصودة, تكون بمثابة هدف للجهة الحاكمة من اجل بث أفكارها السياسية ورؤيتها، وتطبيق مشروعاتها في حيز الحكم.

الفئة الحاكمة تمتلك وسائل لتنفيذ أفكارها السياسية في منطقة سيطرتها, حيث يسهل عليها بث رؤاها من خلال منصات إعلامية تسيطر عليها, إلى جانب تهيئة المجتمع عبر مؤسسات وقوانين وظروف مدروسة الأنشطة ومحددة المجال، من أجل ممارسة نمط معين من التوجيه الفكري ومنع أخرى، حتى وإن كانت لصيقة بثقافة أغلبية المجتمع, وهذا مرتبط بمدى قدرة الجهة الحاكمة على إعداد بيئة مناسبة لبث أو حجب أفكار معينة. الممارسة الحكومية هذه بمثابة وظائف بإمكان أي قوة حاكمة استعمال أدواتها للقيام بها, فتقوم بترتيب أجندات الجمهور Agenda-Setting أو خلق مقصات رقابة Gate-Keepers بدءا من مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، وانتهاء بوسائل الإعلام, لهدف خلق بيئة منسجمة مع البرنامج السياسي لجهة السلطة الحاكمة.

بيت القصيد هنا هو اسقاط ما سبق على نمط الأنشطة التي تجري في غزة في السنوات الأخيرة من مهرجانات إعداد أجيال شابة في مرحلة الفتوة عسكريا, ومهرجانات أخرى للرقص والغناء والتلوين في الضفة الغربية وتحديدا فيما يعرف بـ"العاصمة السياسية" رام الله. فبـغزة مثلا, تقوم الجهة المسيطرة بإبراز نوع الأنشطة الذي يخدم برنامجها إعلاميا وسياسيا وميدانيا وهي تبني "المقاومة", وبالتالي فإن الفكرة الأساسية بالنسبة للسلطة في غزة هي إبراز المقاومة بصفة الأولوية, ولتحقيق ذلك تستخدم وسائلها وتسخر منصاتها وبرامجها المتعددة الألوان.

في شق الوطن المقابل رام الله, فإن الجهة التي تحكم, تسعى أيضا إلى جعل الغالبية العظمى من وسائل الإعلام والأنشطة الشبابية المختلفة في خدمة فكرتها الأساسية (وهي بالأساس ضد المقاومة) أو ما تعبر عنه بمبدأ "اللاعنف" و"السلام" والانفتاح الذي يدير الظهر بطريقة أو أخرى لتوجه نسبة كبيرة من السكان أو قُلْ: لثقافة المجتمع. وبالتالي فإن الحكومة في الضفة ومؤسساتها المتعددة توفر البيئة المناسبة للأنشطة الأقرب لأجنداتها, فتحرص على لتوظيف كل أدواتها الإعلامية والمدنية لتدعيم توجهها السياسي وبرنامجها العام, من خلال ما تنفذه أو تدعمه من مهرجانات الرقص والألوان وغيرها.

في الحالتيْن (غزة والضفة) فإن الجهات الحاكمة كما تسعى لإبراز المظاهر التي تدعم الأفكار السياسية لكل منهما, فإنهم إلى جانب ذلك يسعون أيضا باتجاه تهميش أو حتى منع تسليط الضوء على قضايا أخرى لا يجدونها اولوية تنسجم مع أفكارهم السياسية. وأعتقد أن في غزة شرائح من الناس تتبنى أفكار تؤهلها لممارسة انشطة كتلك التي تحصل في الضفة تماما, كما أن في الضفة الغربية –ورام الله تحديدا- من الناس من يتبنى أفكار المقاومة كتلك التي تحاول الجهات الحاكمة في غزة إبرازها, والأحداث الأخيرة في مناطق الضفة من عمليات مقاومة فردية, ومواجهات لا تنقطع في نقاط التماس مع الاحتلال خير شاهد على ذلك.

إن أي جهة حاكمة تمتلك أدوات مدنية وأمنية وإعلامية, تمكنها من خلق توجه معين–خاصة على المدى البعيد- وتستطيع أيضا أن تفرض أجنداتها على نسبة كبيرة من وسائل الإعلام الرئيسية بطرق مباشرة وأخرى ملتوية, فتصبح المضامين التي يتم التركيز عليها عبر المنابر الإعلامية والمؤسسات الشبابية بمثابة أولويات للمجتمع. وهكذا فإن الأولويات في منطقة ما تكون مختلفة عن منطقة أخرى بقرار سلطوي سياسي, على الرغم من وجود تنوع مجتمعي وأفكار مختلفة وتوجهات متعددة داخل كل مجتمع. في النهاية, حتى ولو كانت الجهة المنظمة لـ"نشاط رقص" لا علاقة لها بالحكومة, إلا أن الأخيرة قامت بتهيئة المناخ وإنضاج الظروف لمثل هكذا نشاط, وبالتالي فإن عملية توجيه النقد لنشاط مثل مهرجان رقص أو تلوين في رام الله هو نقد لتوجه سياسي كامل وبرنامج حكم, كما أن التصفيق لمهرجات تدريب عسكري لفتيان فلسطينيين في غزة هو بمثابة دعم لتوجه سياسي آخر.

وهكذا يمكن فهم مقصد الناقد أو الداعم لمثل هذه الأنشطة المختلفة هنا أو هناك وتفسيره بما ينسجم مع الحالة الفلسطينية الراهنة, مع الحذر من التورط بخصوصيات الناس وحرياتهم وتشخيص النقد وبنائه على الخصومات الفردية والرؤى محدودة النطاق.