شبكة قدس الإخبارية

الإسطرلاب: آيفون القرن الثالث عشر

هيئة التحرير

في زمننا الحالي إذا كنت ترغب بمعرفة ما هو الوقت، فإن الأمر ليس بالصعب؛ ففي كل مكان ننظر إليه يمكننا أن نرى الساعات، فهناك الساعات الرقمية الموجودة على الأفران، أجهزة التلفزيون، لوحات السيارات، والهواتف، كما أن اللوحات المضيئة العملاقة في الشوارع تخبرنا التاريخ والوقت ودرجة الحرارة، وعدد الأشخاص الذين نصادفهم في الشوارع ويسألوننا عن الوقت انخفض إلى حد كبير في زمننا الحالي، كون الأشخاص أصبحوا مكتفين ذاتيًا في معرفة الوقت، من خلال بعض الآليات والأدوات التي يحملونها، والتي تخبرهم عن التوقيت في الوقت الذي يشاؤونه.

ولكن الحال لم يكن كذلك دائمًا، وذلك قبل الآيفون، والساعات الرقمية، وقبل ساعات الجيب حتى؛ فقبل زمن من اختراع الإلكترونيات، وتزويد جميع المدن الرئيسية بأبراج للساعات، تم اختراع الإسطرلاب، الذي ساعد الفلكيين أو محددي الوقت لمعرفة الساعة.

الكثيرون يشبّهون الإسطرلاب بآيفون القرن الـ13، حيث كان أحد أحدث أشكال التكنولوجيا المحمولة، التي يسعى الجميع لاقتنائها، وفي الواقع، هذه المقارنة دقيقة نوعًا ما؛ فالإسطرلاب لم يجب فقط على السؤال البسيط "ما هو الوقت  الآن؟"، وهو السؤال الذي يبدو بديهيًا لنا اليوم من خلال الأدوات التكنولوجية العديدة التي تحيط بنا، ولكن أيضًا كان بإمكان هذه الآلة تنفيذ عدد كبير من المهام التي أجابت على أسئلة مهمة في الحياة اليومية للأشخاص في ذلك الزمن.

الإسطرلاب هو أداة تتكون من أجزاء ثابتة ومتحركة، الجزء المتحرك يمثّل موضع الشمس والنجوم، وبذلك فإن هذا القسم يمثّل نموذجًا للسماء، والجزء الثابت هو الجزء السفلي من الإسطرلاب، وهذا الجزء يحتوي عددًا من المقاييس منحوتة على وجهه، تعمل الآلة عن طريق تحريك الجزء المتحرك منها فوق اللوحات الثابتة، بحيث يعمل المستخدم على مطابقة شكل الإسطرلاب ليتماشى مع موضع النجوم في السماء، كما يحتوي الجزء الخلفي من الإسطرلاب على مخططات ورسومات تسمح للمستخدم بتحديد الوقت وفقًا لخطوط العرض التي يعيش ضمنها.

الإسطرلاب له العديد من الاستخدامات، حيث يسمح للمستخدم بتحديد و/ أو التنبؤ بموقع الشمس والقمر والكواكب والنجوم، كما أنه من الممكن استخدام الإسطرلاب لتحديد الزمن، أو الزمن في خطوط العرض الأخرى، وإذا استطعت تحديد الوقت، يمكنك تحديد خط العرض الذي تعيش ضمنه من خلال الإسطرلاب، فضلًا عن أن هذا الجهاز كان يُستخدم للمسوحات الجغرافية.

الإسطرلاب له أهمية خاصة بالنسبة للمسلمين؛ ففي العالم الإسلامي، كان يُستخدم لتحديد موقع القبلة، وحساب مواقيت الصلاة اليومية، والتي تتغير كل يوم تبعًا لحركة الأرض.

يُعتقد أنه تم اختراع الإسطرلاب لأول مرة في القرن الرابع قبل الميلاد من قِبل ثيون الإسكندري، ولكن على أرض الواقع، الحضارة الإسلامية هي التي ساعدت بالفعل على الترويج لشعبية الإسطرلاب، حيث إن أقدم إسطرلاب إسلامي يعود إلى القرن الـ10، وأقدم بحث من هذا الجزء من العالم حول الإسطرلاب يعود تاريخه إلى القرن التاسع.

إذن، تم استخدام الإسطرلاب لجميع الأغراض المذكورة أعلاه من العصور الكلاسيكية القديمة إلى العصر الذهبي الإسلامي، ومن العصور الوسطى الأوروبية وحتى عصر النهضة.

الطريقة التي ساعد بها الإسطرلاب المستخدمين لأداء جميع هذه الوظائف المختلفة تمثلت بخلقه لـ "إسقاط مجسمي"، بمعنى أنه كان يقدم صورة ثلاثية الأبعاد للسماء ليلًا يتم تمثيلها على سطح ثنائي الأبعاد، ونتيجة لذلك، كان يستطيع المستخدمون من خلاله حمل خارطة سماوية في جيوبهم، والرجوع إليها كلما شعروا بالحاجة لذلك.

وفقًا لسليم الحسني، مؤلف كتاب "ألف اختراع واختراع: التراث الإسلامي في عالمنا"، الإسطرلاب هو "أداة تعمل استنادًا إلى أن نموذج الأرض يقع في وسط منطقة معينة من كون كروي، ومراقب الأرض الوهمي، الذي يقع على خط عرض معين وفي وقت محدد خارج هذا المجال، ينظر إلى هذا الكون من خلال الإسطرلاب، وفي الإسطرلاب الذي يمسك به الفلكي، تقع النجوم الرئيسية في السماء على مثلت معدني متحرك يحتوي على ثقوب، مركب فوق صفيحة دائرية ثابتة أكبر منه، ولأن الصفحية المتحركة التي رُسمت عليها النجوم تحتوي على ثقوب، يمكن لعالم الفلك أن يرى من خلالها الرسومات والدلالات المرسومة على اللوحة الأخرى الثابتة، والتي تحتوي على خطوط تمثل موقعه الجغرافي المعين".

لذا، إذا كنت تريد أن تعرف الوقت أو ترغب بتأدية أيًا من الوظائف الأخرى التي يقدمها الإسطرلاب، كل ما عليك فعله هو اختيار نجم، إذا كنت تستخدمه ليلًا، ثم يمكنك قياس ارتفاع هذا النجم عن طريق النظر إليه من خلال الإسطرلاب، والخطوة التالية هي تحديد النجم المختار على واجهة الجهاز، من خلال تحريك الألواح المتحركة لتتناسب مع ارتفاع النجم، وبالنتيجة سيكون بين يديك نموذجًا آنيًا يتوافق مع شكل السماء في تلك اللحظة بالذات، وبغية معرفة الوقت، تقوم بتحريك ذراع موجودة فوق القاعدة إلى خط التاريخ، وبهذه الطريقة، كان من الممكن للناس الذين يعيشون منذ القرن الثامن وحتى القرن الـ16 تحديد الوقت، وبعد هذا التاريخ ظهرت ساعات الجيب الأولى.

هناك أدلة قوية على أن الأطفال في القرن الـ14 كانوا يستخدمون الإسطرلاب، جيفري تشوسر، المعروف بكتابه "حكايات كانتربري"، كتب مقالًا عن الإسطرلاب، وهو المقال الذي يُنظر إليه على أنه أقدم مقال عن الأدوات العلمية باللغة الإنجليزية، وجاء في نص تشوسر "تم كتابة هذه الأطروحة باللغة الإنجليزية لأنك لا تعرف إلا قليلًا عن اللغة اللاتينية"، ويُقال إن تشوسر كتب هذه الأطروحة لطفل، ومن غير المعروف فيما إذا كان هذا الطفل هو ابنه، أو ابنه بالمعمودية، أو أي طفل آخر.

يحق لنا بشكل طبيعي أن نتساءل كيف يمكن أن تكون هذه الآلة النحاسية مفيدة في معرفة الوقت، في الوقت الذي كانت به أصغر آلة إسطرلاب أكبر من أي ساعة جيب، وهو الاختراع الذي ظهر فيما بعد، كما يحق لنا أن نتساءل عن جدوى استخدامها بالنسبة للعامة، بالنظر إلى الوزن الثقيل لهذ الآلة، فضلًا عن النحاس المستعمل بها، والدقة والمهارة المتطلبة لحفر الأشكال على الإسطرلاب، والذي ينعكس جميعه على الثمن الباهظ لهذه الآلة، والذي يجعلها بعيدة عن متناول العامة.

ولكن من خلال معرفتنا بأن الإسطرلاب لم يكن فقط يصنع من النحاس الأصفر، بل كان يصنع أيضًا من الورق ومن الخشب، يمكننا أن ندرك بشكل أكثر وضوحًا سبب شيوع استخدام هذه الآلة ما بين العامة في ذلك الوقت؛ ففي الواقع، يمكن للإسطرلاب الورقي أن يتم وضعه في المحفظة العادية أو في جيب الملابس.

كما ذكر أعلاه، الإسطرلاب كان يُستخدم في عدة مجالات، ولا سيّما في الحضارة الإسلامية، حيث إن تطوير المسلمين لهذه الآلة يرجع إلى حد كبير إلى حقيقة أنهم كانوا يسعون من خلالها تحديد مواعيد الصلاة يوميًا، هذه المواعيد التي تتغير كل يوم وفقًا لموضع الشمس من الأرض، وهذا الجهاز سهّل على المسلمين مهمة تتبع الوقت وتغييراته، حتى أن العثمانيين بنوا "المؤقتخانة" أو "Mavakkithanes"، وهي غرف مخصصة لمعرفة التوقيت، يتم بناءها بجوار المساجد خصيصًا لمعرفة المواقيت، بحيث إن المارة يمكنهم معرفة الساعة، فضلًا عن أن المؤذن يعرف من خلالها موعد رفع الآذان، وفي عام 1571، كتب مصطفى بن علي المؤقت، كبير علماء الفلك لدى السلطان العثماني محمد الثاني، أطروحة عن الإسطرلاب.

المكانة التي احتلها الإسطرلاب في العالم الإسلامي لم تنبع من كونه أداة لمعرفة مواقيت الصلاة فحسب، بل أيضًا لكونه وسيلة فعالة لتحديد الاتجاهات، ونتيجة لذلك، كان الإسطرلاب يستخدم على نطاق واسع في تحديد اتجاه مكة المكرمة، أي القبلة، واليوم، لا يزال الإسطرلاب يُدرّس في مناهج المدارس المتوسطة والثانوية، حيث يتعلم الطلاب كيفية صنعه، ومن ثمّ يتعلمون تطبيقاته في حياتهم اليومية.

في محاضرة ضمن سلسة تيد الشهيرة، ألقى توم وجاك محاضرة قصيرة حول الإسطرلاب في يوليو 2009، حيث أشار وجاك في معرض حديثه بأن معرفة الوقت هو مجرد استخدام واحد فقط للإسطرلاب، ملمحًا إلى أن هذه الآلة يمكن استخدامها في أكثر من 350 استخدامًا، حتى أن بعض الكتب تشير إلى أنها قادرة على أداء أكثر من 1000 مهمة، ويشير وجاك إلى أن معرفة هذه الاستخدمات الكثيرة والمتعددة لهذا الجهاز الرائع يتطلب حضور دورة جامعية مكرسة للإسطرلاب، ولكن الأهم من ذلك، كما يشير وجاك، هو الميزة الوحيدة التي يتفوق بها الإسطرلاب على التكنولوجيا الحديثة، لأنك عندما تستخدم الإسطرلاب، ستكون مضطرًا للبحث عن السماء ليلًا ومراقبتها، مما يؤسس لاتصال بينك وبين الطبيعة، اتصال مع العالم من حولك؛ لذا، فإن مستخدم الإسطرلاب يدرك تمامًا البيئة المحيطة به، وعلى عكس البشر في عالمنا الحديث، مستخدم الإسطرلاب يستطيع إدراك مكانه في الكون.

ليس هذا فحسب، فالإسطرلاب النحاسي هو من الأعمال الفنية الجميلة، التي كان يصنعها الفنانون والنقاشون المهرة، والكثير من الموسوعات والكتب وثّقت معلومات صنّاع هذه التحفة المعقدة، وأحد هؤلاء الصنّاع هي سيدة شابة كانت تعيش في مدينة حلب السورية في القرن الـ10، وعلى الرغم من عدم وجود قدر كبير من المعلومات عنها، بيد أنه من المعروف أن اسمها كان مريم العجلية الإسطرلابي، كما جاء ذكره في كتاب الفهرست لابن النديم، وفي هذا العمل، قدّم ابن النديم معلومات حول علماء الرياضيات، المهندسين، الموسيقيين، المنجمين، وصناع الأدوات، وكذلك أسماء الأشخاص الذين صنعوا آلات ليستخدمها علماء الفلك، حيث جاء ذكر مريم الإسطرلابي ضمن أسماء 16 مهندسًا صنعوا آلات يستخدمها الفلكيون، ويذكر الكتاب بأن مريم ذاتها هي ابنة لصانع آلات، وكلاهما كانا من مجموعة المهندسين الذين يتمتعون بمهارات عالية والمشهورين بصناعة آلات في القرنين التاسع والعاشر الميلادي، كما يذكر الفهرست بأن كلًا من مريم ووالدها كانا طلابًا لبيتولوس، وهو - على ما يبدو - صانع إسطرلاب شهير، ويشير الكتاب إلى أن مريم كانت تعمل جنبًا إلى جنب مع والدها في محكمة سيف الدولة الحمداني في حلب.

الإسطرلاب هو أداة لها تاريخ طويل وهام، وعلى عكس الأدوات الحديثة، لا يتطلب تصنيع هذه الأداة مهارات هندسية كبيرة فحسب، بل إن تصنيعها كان يتطلب أيضًا ذوقًا فنيًا رفيعًا للغاية، ومن خلال هذه الآلة، حتى الأطفال كان يمكنهم أن يعرفوا الوقت، موقع الشمس، موعد الشروق، كيفية حركة الشمس عبر السماء، وموعد الغروب، وبغض النظر عن الطبيعة غير الإلكترونية لهذه الآلة، فإن الإسطرلاب يتمتع بميزة تتفوق به عن جميع الآلات الحديثة، كونه يتطلب من المستخدم أن ينظر إلى السماء ليلًا، وفي خضم بحثه هذا، قد يحدق في نجوم السماء، ويتفكّر في السماوات وصانعها، مؤسسًا اتصالًا وثيقًا تشتد حاجتنا له اليوم مع الطبيعة.

 المصدر: ديلي صباح - ترجمة: نون بوست