لم تعد المسلسلات التلفزيونية الفلسطينية مجرد حلقاتٍ تعج بالمشاهِد التي يتسمّر الجمهور وقت عرضها أمام الشاشة بغرض التسليةِ وقتل وقت الفراغ، ولم يكن مسلسل الفدائي الذي يُعرض هذا العام الأول من نوعه في مجال المسلسلات التي تحاكي الألم والأمل معاً، وتعكس الدموع وصمود الشعب في آنٍ واحد، بل يبدو أن مخرجه وكاتب السيناريست الخاص به والجهة التي أشرفت عليه، أرادوا إيصال رسائل أبعد من ذلك بكثير.
هذه السطور لن تكون عاطفيةً أو مدحاً لأحد أو لجهة معينة، بل هي مجرد قراءة منطقية سريعة لما لمحته عند تفحصي بضع حلقاتٍ من مسلسل الفدائي، الذي يُعرض على قناة الأقصى الفضائية وتدور أحداثه في البلدة القديمة بمدينة الخليل.
حلقاتُ المسلسل نجحت في الخروج من النمط التقليدي المألوف في دراما المقاومة وكفاح الشعب الفلسطيني، رغم أنها مزجت بين هذا النمط التقليدي بصفته واقعاً معاشاً لا مفر منه، لكن كانت هناك إضافاتٌ مميزةٌ تم التركيز عليها، فمثلاً يشعرالمتمعن جيداً في لقطات المسلسل وحلقاته أن منفذّيه يسعون لإيصال رسائل مختلفة الأنواع والموضوعات للمشاهد.
بدايةً، الجميل في المسلسل من وجهة نظري، أنه يُعطي قيمةً للإنسان الفلسطيني دون غيره، لا تعصبٍ فصائلي أو حزبي، وهذه نقطةٌ مشهودة لمنفذّيه، حيث من المعروف أن قناة الأقصى هي المنبر الاعلامي الرسمي لحركة حماس في مجال البث الفضائي، أما أبرز القضايا التي لمحتها فهي تركيز المسلسل على واقع الحركة الأسيرة، بل وسعى المسلسل في مشاهده لإظهار ثقافة توعوية في المجال الأمني ومجال التحقيق في سجون الاحتلال، حتى أنه أفرد فترة طويلة لهذا الغرض، فاستعرضت حلقات مسلسل الفدائي على سبيل المثال لا الحصر أساليب التحقيق، "الشبح"،"الترغيب والترهيب"، "التضخيم"، "العصافير"، إضافة لما أسمّيه "العصافير المموهة" وهي المرحلة المتقدمة من عمل العصافير في سجون الاحتلال، كل هذه الأساليب استعرضها المسلسل بدقةٍ متناهية، رغم أن بإمكان الكاتب والمخرج فعل ما يحلو لهما من اقتصاصٍ للمشاهد وجعلها قصيرة المدة.
بالتالي لم يعد ضرورياً أن يُمسك المرء كتاباً يتصفحه ليزيد مستوى الوعي الأمني لديه، خاصة في ظل تراجع نسبة القرّاء داخل مجتمعاتنا العربية، بل إن المضمون التوعوي لهادف سيجده بين يديه محشواً داخل اللقطات والمشاهد التلفزيونية، بشكلٍ مغايرٍ للروتين المُعتاد.
الأمر الآخر، فهو التركيز الدقيق على عمل المقاوم الفلسطيني، حتى في أبسط الأشكال والأدوات، فمثلاً: أفرد المسلسل مقطعاً نحو دقيقة ونصف إن لم أكن مخطئاً فقط لطريقة تصنيع المتفجرات البسيطة المحلية، أو ما يُطلق عليه فلسطينياً "الكوع المتفجر"، وسرد الطريقة ومراحل التصنيع وحتى مراحل التجربة، فهذه كانت لفتة مقصودة من المسلسل بكل تأكيد.
ينتقل المسلسل أيضاً لتسليط الضوء على البلدة القديمة في الخليل، بصفتها معلم بارزٌ يتعرض للتهويد ومحاولات الأسرلة بشكل كامل، عبر شراء الممتلكات والعقارات لصالح الاسرائيليين تارة بشكل مباشر، وتارة أخرى عبر السماسرة.
شح الإمكانيات وعدم مضاهاتها للمعدات الإقليمية والدولية المستخدمة في صناعة الأفلام والمسلسلات، لم يكن عائقاً أمام انجاز مسلسل "الفدائي"، وهذه نقطة تُحسب للمسلسل، إضافة لإتقان المسلسل الشديد لعددٍ من الأمور الفنية، أبرزها اللهجة الخليلية، وفي هذا الصدد إستفادت أسرة المسلسل من الأسرى المحررين المبعدين من الخليل لغزّة، كما ورد في أغنية الشارة.
كل عملٍ لا يخلو من السلبيات والانتقادات، والانتقاد الوحيد الذي لاحظته كما لاحظه غيري، هو وجود نوعٍ من الإبتذال ويُمكن أن يكون غير مقصود، وأقصد أثناء الحديث ما بين الفلسطينيين أنفسهم، فالمسلسل يشهد كثرة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في سياق الأغلبية الساحقة من المحادثات، هنا لا أهمل دور الآيات القرآنية والأحاديث لكن وجودها بكثرة يخالف الواقع الفلسطيني، فنحن الفلسطينيون عندما نجلس نتجاذب أطراف الحديث، نتكلم بمنتهى البساطة دون الحاجةِ لقراءة آيات القرآن عند كل حديث نُجريه.
هذا ما لمحته لغاية الآن من بضع حلقاتٍ تابعتها بعنايةٍ، لكن نجاح المسلسل أو عدم نجاحه فلا أستطيع الحكم عليه، لأنه يستهدف جمهوراً عريضاً بالتأكيد ولا يستهدف شخصاً واحداً، بل أردت أن أضع ما لمسته في المسلسل بشكل منطقي دون زيادة أو نقصان أو حتى تخمين.