لا أدري متى بدأ أسلافي بطهي العكوب، ولا كيف اهتدوا إلى ذلك، وما الذي دفعهم إلى تلك المجازفة. لعله الجوع هو ما يدفع البشر إلى اعتبار كل ما على هذه الأرض قابلا للأكل وإن كان محصنا بالأشواك الجارحة النافرة، أو ربما إنّ الأشواك الجارحة هي ما تلهب الفضول نحو ما تحميه من لذائذ... على كلٍ، في لحظة ما من التاريخ بدأ الناس على هذه الأرض في أكل العكوب، وبدأت معرفة تتراكم حول طبائعه وسبل جمعه وتعكيبه وطهيه، وخشنت الأكف شيئا فشيئا على مر الزمان لتقاوم أشواكه، وإن بقي ذلك الحّد الفاصل الدقيق ما بين الأظافر وأطراف الأصابع عصيا عن التحصين أمام أشواكه.
كل ذلك لا يهم أو يهم، لا يهم، فعلى الأغلب ستكون هذه الأسئلة، بعضا مما سنشغل به أذهاننا لنطرد ضجر ظهائر ما بعد التحرير... ما يهمني الآن، هو ما دار في ذهن "الشيف" بعد أن خرج من مبنى استوديوهات القناة الثانية في التلفزيون "الإسرائيلي" بعد تصوير حلقة من مسابقة الطهي "ماستر شيف"، وصل في نهايتها إلى المرحلة ما قبل النهائية في المسابقة، وصار اسمه بعدها على كل لسان في بلدته الجليلية.
أدار "الشيف" محرك سيارته، وبدأت رحلة العودة الطويلة من القدس إلى الجليل، دارت عجلات السيارة، ودارت في رأسه أفكار لاهثة منتشية حول الشهرة وما يتبعها عادة من ثروة محتملة. تكثفت أحلامه، كأبخرة على غطاء قدر أنهكته النار، في كلمة واحدة " مطعم "... فليكن كل ذلك مطعما، ومطعما لا مثيل له في "الوسط العربي"...
بدأ "الشيف" يحضر لمشروعه الحلم كما يحضّر لطبخة حاسمة ما قبل التصويت؛ المكان هو علية العائلة، وأما الاسم، فيجب أن يكون أسما جذابا يداعب مخيلة الزبائن اليهود، وتتصاعد روائح الشرق منه. مرّ شريط طويل من الأسماء في ذهنه، وقف عند بعضها وأهمل أخرى إلى أن هبت نسمة ربيعية من نافذة سيارته، حملت معها اسم عكوبّ، فليكن اسم المطعم عكوب، وليكن مطعما يختص بالمأكولات النباتية العربية، خاصة أن موضة النباتية والطعام الإثني تجتاح ذائقة "الوسط اليهودي"، وليكن العكوب بوصفاته المتعددة، هو طبق المطعم المميز...
أشرقت الشمس على العليّة موشومة باسم عكوب باللون الأخضر الداكن باللغتين العبرية والعربية، وصار الآن من الضروري ابتكار حكاية تسويقية تحبك علاقة حميمة ما بين المكان والاسم وتاريخ عائلة "الشيف"، وهكذا نبتت حكاية الجدّ بائع العكوب، والذي كانت تجمعه العائلة من جبال الجليل ويخرج به صباحا لبيعه على حماره القبرصي، والجدة التي ذاع صيتها في ابتكار وصفاته في البلدة، وهنا كان لا بد أيضا -لأخت "الشيف" - حُسنية العانس أن تصبح جزءا من الحكاية لتضيف صبغة نسوية على المشروع.
قام الشيف بإنشاء بيت بلاستيكي "حمموت" في الحاكورة الملاصقة للعلية لزراعة العكوب على مدار السنة، وكان البيت البلاستيكي لخداع مراقبي حماية الطبيعة، بينما في الحقيقة كان يأتي بعكوبه مُعكبا مهربا من نابلس، ويخزنه في ثلاجات في بيته، بعد أن تقوم حُسنيّة بقليه بالزيت والفلفل الأسود لتوقف نمو أشواكه العنيدة التي تستمر بالنمو حتّى بعد اجتثاثه من الأرض. ومع الفلفل الأسود أطل برأسه تاريخ العائلة المطمور، عندما رفض الجدّ أن يصدق بأن القصة قد انتهت مع قيام الدولة، فحفر خندقا في الحاكورة بالقرب من شجرة الخروب، التي كان يبيع نقيع ثمارها مبردا في حسبة الناصرة، ودفن فيه بارودة انكليزية، ونثر حولها الفلفل الأسود ليبعد عنها كلاب الأثر...
لم تمض سوى أشهر قليله حتى أصبح مطعم عكوب قصة نجاح التقطتها الصحافة العبرية، وخصصت له جريدة "هآرتس" تقريرا مطولا في ملحق العدد الممتاز ليوم الجمعة، انتصبت حليمات التذوق على لسان القراء وهم يطالعون الصور عالية الوضوح لأطباق العكوب في التقرير، ولم يمض بعدها وقت طويل حتّى صار مطعم عكوب عنوانا للمؤمنين بالتعايش "الدوكيوم"، وكما عبّر "الشيف" عن ذلك في نهاية التقرير: "إنّ حلّ الصراع "السخسوخ" عن طريق المعدة أنجح بكثير من كلّ الحلول السياسية".
أشواك طافية على وجه الحساء، هي كل ما تبقى من العكوب بعد أن صار طبقا مفضلا للزبائن اليهود في أمسيات الجمعة، وبعد أن صار التلذذ بأكله علامة على موقف سياسي تقدمي، وأما "الشيف" فقد صار يفكر جديّا في خوض انتخابات الكنيست القادمة، وأما حُسنية فقد كان "عكوب" سببا في رزقها بابن الحلال بعد طول انتظار.