في البداية مصطلح السلطة الرابعة ليس له علاقة بالسلطات الدستورية الثلاث "تشريعية ، تنفيذية، قضائية" ولا يعتبر أي شكل من الأشكال محمياً من الدولة كما تلك السلطات، غير أن الدولة الليبرالية عززت مفهوم الحرية وحقوق الإنسان وكان لحرية الفرد والرأي دور كبير في نظامها الاجتماعي والسياسي، ولكن في الدول الأخرى التي لا تأخذ المنحى الليبرالي يختلف دور الصحافة ودور الفرد، ولنرجع لأصل مصطلح "السلطة الرابعة" نجد أن أول من جعله متداولاً هو المؤرخ الاسكتلندي "توماس كارليل" في إشهار المصطلح وذلك من خلال كتابه "الأبطال وعبادة البطل" حين اقتبس عبارات للمفكر الإيرلندي "إدموند بيرك" أشار فيها الأخير إلى الأحزاب الثلاثة (أو الطبقات) التي تحكم البلاد ذلك الوقت، رجال الدين والنبلاء والعوام، قائلاً إن المراسلين الصحفيين هم الحزب الرابع -"السلطة الرابعة"- الأكثر تأثيراً من كافة الأحزاب الأخرى (المعلومة موجودة على الويكيبديا والمواقع الأخرى).
أما في حالتنا الفلسطينية نرى ضعف تلك السلطة وتخلفها نوعاً ما، وذلك لأسباب عدة ومن أهم تلك الأسباب غياب الإجماع الفلسطيني ثقافياً وغياب الرؤية الموحدة ، وغياب تطور القانون والأسس التشريعية المواكبة لتطور الحياة، نتيجة لغياب السلطة التشريعية وعدم مواكبة السلطة القضائية احتياجات الناس، والسبب الثاني هو غياب مؤسسات صحافية مستقلة بعيدة عن الحزبية وشروط التمويل، وغياب الاختصاص في التغطية الصحافية.
تلك الأسباب وغيرها حولت السلطة الرابعة في حياتنا اليومية لبسطة رابعة، فما نراه على صفحات الشبكة من تقارير تصيبنا بالغثيان، وإسقاطات على مجتمعنا الفلسطيني وتعميم، وما نراه من نسخ ولصق لخبر يتداول على آلاف الصفحات دون مراعاة التحرير وغياب وظيفة المحرر والمراسل الميداني فعلياً، وملئ تلك الصفحات بأخبار فنانات وفضائح فنانين لجلب أكبر عدد من الزوار على الصفحات، وضعف الصحافة المكتوبة والتقارير الاستقصائية، إذ تحول الإعلامي إلى رجل علاقات عامة يلعب دور تلميع شخصية أو حزب، فنرى الإعلاميين يمارسون القدح والذم والتشويه والكذب بناء على مزاجهم الشخصي، وعلاقاتهم الشخصية وانتماءاتهم الحزبية.
فما نحتاجه في هذه المرحلة من تطور على مستوى الإعلام الرسمي والخاص، يبني رأيا عاما سليم يعارض أو يناصر، يتناول الهموم المحلية وينقل صورتنا محلياً ودولياً، إعلام يملك صحافيين واعيين لدورهم ومسؤولياتهم، صحافيين يكافحون لنصرة الناس وحقوقهم، ويناقش قضايا الناس بطريقة أكثر مهنية، نحن بحاجة إلى إعلاميين يناقشون التعليم والصحة والفقر باختصاص وتمويل التعليم والصحة ومحاربة الفقر وضعف المؤسسات التعليمية والصحية والإغاثة الاجتماعية، وإيجاد حلول تساعد العامة، لا إعلانات على صفحاتهم الشخصية لجمع تبرعات أو تقارير صحافية عن فقر أحدهم وعطاء أحدهم.
نحتاج إلى إعلام رسمي لا يقوم بدور المتحدث الرسمي للسلطة فقط بل يقوم بحملات رأي عام، وتوعية لما يدور من أحداث سياسية واجتماعية، وأن يتجاوز أخبار المسئولين وصورهم وينقل لنا برامج المسؤولين وتصوراتهم، وأن لا يحجب الأخبار ويتعاطى معها كمراقب وكمعلق، وأن يلعب دور التغذية الراجعة للصناع القرار، وأن لا يتجاهل الرأي العام، وأن يعي أنه في حالتنا الفلسطينية كانت مدرسة الأعلام الرسمي في بدايات السلطة تلعب الدور الأكبر في حياتنا اليومية، وخريجي تلك المدرسة ما زالوا يبدعون في المحطات الخاصة والمحلية، ولهم دورهم السياسي والاجتماعي والثقافي، فضعف الأعلام الرسمي دفعه المستوى السياسي في كثير من المناسبات ، وبغض النظر عن أسباب الضعف سواء كانت ذاتية أو موضوعية، فالإعلام الرسمي يجب أن يتحمل مسؤولياته في القضايا اليومية والمفصلية في حياة شعبنا، عليه أن يكون الداعم الأول للمستوى السياسي والتغذية الراجعة له.
ونحتاج إلى شبكات فلسطينية معروضة في الاكتتاب العام واستثمارات إعلامية تساهم على النشر والتوزيع، وتشجع الإبداع الفني والثقافي وإنتاج الأفلام الوثائقية، ونحتاج مؤسسات رعاية وتدريب للإعلاميين، وإعادة النظر في برامج كلية الإعلام ومحتواها، ونقابة قوية تقوم باحتواء الإعلاميين بشروط تحافظ على مستواهم، لا تعتبر عدد السنوات معيار الانضمام، بل كم من تقرير تم أعداده وكم من مقالة وكم تغطية، وبالأدق هل عمل كصحفي وأعلامي أم حمل المايك والكاميرا بشوارع المدن لمحطة محلية لقاء راتب زهيد، نقابة تراعى الاختصاص وتشجع المبدعين، أن تميز من عمل فنياً ومن كان إعلاميا، وأن تقوم بالرقابة على الكليات الإعلامية بالجامعات ، وترفض أن يكون اختصاص الإعلام عرضة للعرض والطلب وأن يكون مثل اختصاص الطب حساس، نقابة تحافظ على هيبة الصحفي أمام الرأي العام قبل النخب.
نحتاج إلى سلطة رابعة واعية أن دورها اجتماعي وثقافي، دورها في نشر المعلومة والوعي لدى الجمهور والتركيز على المشاكل الأساسية بحياته، سلطة رابعة أفرادها متحررون من رقابتهم الذاتية ومدافعون عن حقوقهم وحقوق الآخرين أمام رأس المال والنخب السياسية والاجتماعية، سلطة تقوم عمل المؤسسات الرسمية وتقيمه على معيار علمي وليس مزاجي، سلطة تتناقل بين أجيال لتحقق لشعبنا ما يبتغيه، سلطة رابعة لا تنسى جذرها هم غسان كنفاني وماجد شرار وكمال ناصر والعديدين من القيادة السياسية للمجتمع الفلسطيني.
وضع الأعلام الفلسطيني الحالي ما هو إلا بسطة رابعة يعلو فيها الصراخ والذم في آراء الآخرين، بسطة يتعامل العاملون فيها كأنهم باعة متجولون، يعلنون عن آرائهم كأنها بضاعة تباع وتشترى، بسطة متغير مزاجها بناء على الموسم، فلا نرى نقدا بناء أو حتى سلبيا، وكل ما نراه ونسمعه ما هو إلا تكرار بصياغة أخرى لأحداث مضت.
فما يحتاجه الفلسطيني اليوم هو التقدم بالحياة لا أن يقع في دوامة الاحتياجات والمشكلة التي لم تحل، فالإعلام له الدور الأول في تحريض الشارع وتوعيته أنه ما زال مكانه منذ عقود، وأنه لم يتقدم أو يتراجع، بل أصبح أكثر تململاً وأكثر تذمراً ليس إلا، فذلك نحتاج إلى سلطة رابعة مش بسطة رابعة.