من البديهي جداً في وطن يقبع تحت الإحتلال أن يمرّ على مسامعك كلمات ومصطلحات متعلقة بالمقاومة بمعدل ست أو سبع مرات في اليوم، وهو الأمر الذي سوف يؤثر لاحقاً على قدراتك العقلية، وبالتحديد العقل الباطن، وينعكس على تصرفاتك في حياتك اليومية المملة إلى حد ما، مع أنه من المفترض لا وجود للملل في وطن محتل منذ ما يقارب 65 عاماً. لكن ذاك البديهي جداً ليس موجوداً في وطننا العزيز.
من المصطلحات التي أصبحت تتكرر كل صباح ومساء في السيارة والجامعة وبعض مؤسسات المجتمع المدني كما تحب أن تدعو نفسها- وهي أبعد ما تكون عن المجتمع المدني الفلسطيني خاصة ذاك المجتمع القابع في المخيمات المهملة والأغوار الشمالية على سبيل المثال لا الحصر- مصطلح " المقاومة الشعبية" وفي رواية أخرى "المقاومة السلمية".
انتظرت كثيرا لأكتب عن الموضوع، وودت أن لا أتطرق إليه أبداً، ولكن إصرار البعض على فرض أشكال معينة من النضال والمقاومة وحصرها في شكل استسلامي انبطاحي دفعني للكتابة والتعبير عن كافة مشاعري المتعلقة بهذا الموضوع، الذي أضحى مبتذلاً إلى أبعد الحدود وخاصة في وجود نموذج مصطفى البرغوثي وجماعته على الساحة الفلسطينية.
فيما يلي ملخص لأهم المشاعر التي تجتاح قلبي وتعطل عقلي فيما يتعلق بموضوع المقاومة الشعبية والتي أصبح مطلوباً منا أن نساير كافة أشكالها المفصلة على مسطرة الليبرالية الحديثة والتي تجتاح البلد كاجتياح الجراد للنقب الفلسطيني. وإن لم نساير تلك القوالب نصبح في عداد " اليساريين المتطرفين".
لماذا المقاومة الشعبية محصورة فقط في ردات الفعل وليس في الفعل المنهج المخطط الواسع الذي يشمل كافة المناطق في فلسطين وليس بضع قرى هنا وهناك، ولماذا تكثر نشاطات المقاومة الشعبية بوجود التمويل الأجنبي المختوم بأختام الإتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية ,,, لماذا لا يوجد مقاومة شعبية بدون تمويل، أو بتمويل فلسطيني محلي خالص إن احتاج الأمر.
ألا يجب علينا التفكير بأهمية النأي بالمقاومة الشعبية عن التمويل الأجنبي، والتمويل الحكومي "ذاك التمويل القادم من مكتب رئيس الوزراء د. سلام فياض"، إن النأي بها يجعلها أكثر فعالية وتلاءماً مع الواقع وأكثر إبداعاً حيث أن الإرتهان للتمويل يفرض شكلاً معيناً من المقاومة وخطوطاً حمراء على أشكال المقاومة المتبعة، ويمكننا في هذا المجال الاستفادة من أدبيات المقاومة الشعبية التي كانت متبعة منذ ثورة عام 1936 والثمانينيات والإنتفاضة الأولى.
لماذا لا تتبنى الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية بعض المبادرات الشبابية التي تندرج ضمن إطار المقاومة الشعبية كالإضرابات العامة، والعصيان المدني وبالتالي تتوسع دائرة المقاومة الشعبية .. هل هنالك خوف من الإصطدام بالجسم الحاكم، أم أنه اتفاق مبطن لفرض شكل واحد من أشكال المقاومة الشعبية،هل هنالك إطار مفروض على الجميع لا يستطيعون تجاوزه، لماذا تتجاهل الأحزاب مواضيع حساسة ومهمة مثل اللاجئين، التهجير القسري والتطبيع الذي يرقى أحيانا لدرجة العمالة.ومن أمثلة التطبيع " العمالة" الأخيرة رسالة عيسى قراقع إلى المثقفين الإسرائيليين حول وضع الأسرى الفلسطينيين، متجاهلاً حضرته أن من يدعوهم بالمثقفين يدافعون عن يهودية الدولة حتى أخر رمق فيهم، وأن بعضاً منهم قد خدم يوماً في الجيش الإسرائيلي الذي لا داعي لسرد تاريخيه الدموي هنا.
لماذا عند الحديث عن المقاومة الشعبية يتم حصرها ببعض الأشخاص الذين يتمتعون بصفات محددة منها إتقانهم للغة الإنجليزية، والفرنسية أحياناً أخرى، وأولئك البارعين في استخدام التكنولوجيا ووسائل الإعلام الاجتماعي الحديث، أليست تلك السيدة التي تضرب الجندي " الإسرائيلي" بحذائها مقاومة شعبية وبكل جدارة. أرجو من فلاسفة ومثقفي البلد أن يكفوا عن تلك التصنيفات التي سوف تودي بنا إلى الهاوية، فالقادم عبر الصحراء لرام الله من أجل بيع بعض من حليب أغنامه أكثر مقاومة ممن لديه ألاف المتابعين والمعجبين على تويتر والفيس بوك.
أما بالنسبة لمؤسسات المجتمع المدني، أو مؤسسات " التمويل الأجنبي" لماذا عملها فقط يقتصر على أماكن محددة، هل يعود الأمر لقلة الإمكانيات والموارد، أم أن الأمر مرتبط بالتمويل الأجنبي والقيود الحكومية.
لماذا لا تقوم تلك المؤسسات بطرح موضوع المقاومة الشعبية في قطاع غزة، وليس المقصود هنا مقاومة شعبية ضد حماس ، وإنما ضد الإحتلال المتمثل في وجود 6 معابر تحاصر قطاع غزة ... وأمور أخرى مثل استقبال أحد منفذي مجزرة صبرا وشاتيلا في غزة وتكريمه على أنه بطل قومي ...
لماذا لا تتبنى المبادرات الشبابية ذات الطابع الجريء التي قد تؤدي إلى الإصطدام بالجسم الحاكم، هل دور المؤسسات هو دور مقتصر على تقديم الدعم الإعلامي ، أم أن هناك دور أكبر يتمثل في تشكيل نواة صلبة لأجسام وأشكال مختلفة من المقاومة الشعبية ... ما هو دور مؤسسات المجتمع المدني في حماية وطرح قضايا التهديد والإبتزاز التي يتعرض لها بعض نشطاء المقاومة الشعبية، والمدونين.
تكمن الإجابة على التساؤلات السابقة بإعادة تعريف وصياغة مفاهيم وأدبيات المقاومة الشعبية بطريقة أكثر شمولية، وأكثر قرباً من الواقع ومأسايه، وأكثر بعداً عن مكتب رئيس الحكومة وعن مصادر التمويل الأجنبي، وعن اللقاءات التطبيعية، والتثقيفية التي تروج لوجود مقاومة مفصلة بناء على رغبة السيد الأمريكي، وشريكه الإسرائيلي، لأن محاولة الإجابة على التساؤلات أعلاه وبالقرب من تلك المنافذ سوف تكون أشبه بمن يعرف الماء بالماء، وتجرد كلمة مقاومة من كافة المضامين التي تحملها وتحولها لفقرات تسلية في سيرك طويل الأمد.
ملاحظة أخيرة: المقاومة الشعبية لا يفترض بها أن تكون مبنية على مقياس الرجل الأوروبي الذي لديه تصنيفات خاصة بالحضاري واللاحضاري، وما يجوز فعله، ولا يجوز، لأن القنصل البريطاني هو شخص ممثل لسياسة دولة انتدبت على فلسطين وسلمتها للعصابات اليهودية التي ارتكبت مجازر تفوق في بشاعتها مجازر الهولوكست، ولم تكلف نفسها بتقديم ولو اعتذار بسيط، لذلك أرجوكم لا تلقوا باللوم على طلاب جامعة بيرزيت حين يطردون القنصل من الجامعة ولا تصفوهم بأنهم عديمي ثقافة وعديمي مسؤولية، لأن من يطبع مع الإحتلال أجدر بتلك الأوصاف.