"منور أو منورين أو منور يا كبير أو بتجنني حبيتي".. هي أكثر التعليقات الموجودة في صفحات التواصل الاجتماعي، هي تلك العبارات التي أصبحت عادية في التعليق وربما هي السبب الرئيس خلف أيقونة الإعجاب، وذلك حل سريع للكتابة والتعبير عن الإعجاب بالصورة وتقدير صاحبها، حل كما الوجبات السريعة يوفر الوقت والجهد، حل لا يناسب ثقافة غنية بطولة البال.
فثقافتنا العربية طويلة بال، ففي الأكل نحتاج لنصف نهار بين إعداد الطعام وتناوله، حتى فنياً تراثنا الفني والشعبي يحتاج لطولة بال، لسماع أغنية لأم كلثوم تحتاج إلى ساعة، وأغاني فيروز ما هي إلا أغاني مأخوذة من مشاهد مسرحيات الرحباني، والدحية والمثمن والمربع والمعلقات الشعرية والزخرفة الإسلامية وخط الرقعة وخط الثلث وخط النسخ، كل تلك الأمور تحتاج إلى وقت وطولة بال.
ولكن من لحظة دخولنا عالم العولمة بدءاً بالتلفاز والراديو والمحطات المركزية، بدأت الصدمة لدينا اصبح عامل الوقت مهماً، فكان التلفاز الحكومي له أوقات عمل محددة تبدأ من السادسة صباحاً إلى منتصف الليل، فبدأت الاختصارات في الأغاني والتمثيليات وحتى حلقات المسلسلات، ولم تكن الدعاية التجارية لها دروها آنذاك وبقي بالنا طويلاً.
وتطورت وسائل الاتصال وظهرت القنوات الفضائية وأصبحت الخيارات أكثر، وأصبحت الدعايات التجارية تملأ الفضاء، وما زال بالنا طويل فكان المسلسل يحتاج إلى عام كامل من العمل وربما أكثر، والفنون الغنائية كانت تستهلك كثير من الوقت في الكتابة والتلحين وإخراج فيديو كليب، وكان ظهور الفنان يحتاج إلى وقت كبير من الحفلات وصلاً لأستوديو الفن.
كل تلك الفترة ومستوى الصدمة لم تأثر على الذاكرة، لأننا كنا نحفظ ملامح الممثلين وأدوارهم في المسلسلات، والأغاني كانت تتكرر على الإذاعة على مدار العام وكان لنا فنانا المفضل، كان أصحاب محلات الكاستيات المصدر الوحيد المعلن عن موعد انطلاق البوم الفنان، إذ كانت تعج المدن والقرى بصوت المغني حين يصدر ألبومه الجديد وكانت أشهر الشركات آنذاك "ليزر كاسيت وساوند كاسيت"، والراديو كان تابعاً للاحتلال ولم يكن يبث إلا الأغاني القديمة، إلى مجيء السلطة فظهرت الراديوهات والمحطات المحلية، التي كان مذيعها ومخرجها ومهندسها صاحب المحطة نفسه وأحيانا يظهر أحد أقربائه وأطفاله فيها، والراديوهات المحلية كذلك إلى أن جاءت الصدمة الكبرى، الجيل الجديد من الاتصالات.
بدأ العصر الجديد من صفحات الانترنت والسرعة، فظهرت وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب وغيرها من وسائل التواصل، فأصبح كل منا يملك محطته وقادر على إرسال رسالته للناس، هنا فقدنا ذاكرتنا وأصبحنا كالسمك، نسبح في محيط كبير من المعلومات والإشاعات والتفاصيل والصور، أصحبنا لا نعلم مصداقية الصورة أو الكلمة أو الخبر، لكننا ننشره وبالنا لم يعد طويلا ولم نعد قادرين على الصبر لإعطاء رأينا أو حتى التفكير في من نشر الخبر وسبب ومصدر تلك المعلومة.
لتصبح عبارات أكدت صحيفة أمريكية أو مصدر رفض الإفصاح عن اسمه أو مؤسسة أبحاث يابانية تقليدية ومنبع للثقة، كما صفحات الصحافيين مصدراً للمعلومات والأخبار على الرغم أن معظم ألئك الصحافيين لا يعملون في مجال الصحافة الاستقصائية ولم ينتج تقريراً واحداً، حتى انه لا يملك طولة البال لإعادة تحرير تقرير نسخه من صفحة ثانية بكل الأخطاء اللغوية والإملائية، أو حتى أن يراجع أرشيفه من مقالات وآراء وحتى بوستات بالفيسبوك وصور، وأصبح من ينتج فيديو أو يكتب نصا بدائيا ويلقى تشجيعاً، لا يملك طولة البال لمراجعة نفسه وإنتاجه وتطوير موهبته ويستمر إلى أن يستهلكنا ويستهلك حياتنا اليومية، وكان النتيجة أن نعيش في نفس الأحداث السنوية بنفس العقلية دون أن نتقدم خطوة واحدة للأمام.
فعلى الرغم من تطور وسائل الاتصال والإعلام من مرحلة طابون الفرن ونقاشات القهاوي إلى مرحلة الشبكات الاجتماعية والمصادر المفتوحة ما زلنا في نفس العقلية من التفكير والتعاطي مع الأحداث، ما زلنا بعقلية إشاعة الفرن وأسلوب "القيل والقال"، وما زال المبدع الوحيد هو المعروف تاريخياً على الرغم من تراجع أدائه وغالباً سوءه، وما زالت حرية الرأي معيارها هو أسلوب النقاش والمماحكة في القهوة الشعبية ومقولة "خليه يحكي" و"ليش متذايق من حكيو" وإعادة قول المعلومة المعروفة لكل الناس لكن الكل يخفيها حرجاً وخوفاً لكن بأسلوب أكثر تجريحاً، بدلاً من أن تكون أداة لإيصال الحقيقة للجماهير وتحرير عقولهم من المسلمات، وما زلنا نعيش بعقل الستينات لكن بأدوات حديثة، و بدون طولة بال.