رام الله- خاص قدس الإخبارية: تتناوب أصابعه على تحريك مسنن جهاز الراديو البلاستيكي الصغير، ارتفعت الأصوات من حوله فوضع الراديو قرب إذنه، في محاولة حثيثة لإيجاد ما يسمعه على إحدى الإذاعات الفلسطينية لربما يبعد الأفكار التي تدور في رأسه منذ أكثر من أربعة أشهر.
فشلت المحاولة، جهاز لعين ثمنه بضعة شواقل لم يفِ بطلب أحمد أيوب رمانة (23) عاما لتعود الأسئلة تنهال على رأسه كالحجارة موقظة آلامه، "ماذا حدث؟ هل سأرى؟ أين الضوء الذي تحدثوا عنه؟ متى أرى؟ ماذا أفعل؟"، نهض يتحسس طريقه، تعرقل، وقع، عاود النهوض، وجلس ليفكر بهدوء.
[caption id="attachment_54627" align="alignleft" width="400"] أحمد رمانة فقد البصر في كلتي عينيه برصاصة دمدم أطلقها عليه الاحتلال بمخيم الأمعري برام الله[/caption]رصاص الدمدم
فرصاصة من النوع الدمدم المتفجر اختطف البصر من كلتا عيني أحمد أيوب خلال قمع قوات الاحتلال مسيرة الـ 48 ألف التي انطلقت بهدف كسر الحصار عن مدينة القدس والوصول إلى المسجد الأقصى ليلة القدر الموافقة (24) من تموز الماضي، " دخلت الرصاصة من العين اليسرى وتفجرت شظاياها بداخلها أحلق الضرر بالعصب البصري وهو ما سلبني القدرة على الرؤية".
لم يكن أحمد من الناشطين الفاعلين، كما لم يكن يواظب على المشاركة في المسيرات والمواجهات، إلا أن ما مرت به القدس وغزة في الآونة الأخيرة دفعه للقيام بأي شيء لنصرتهم،" كنت أتابع ما يجري وأشعر بأني خائن لأني لا أقوم بشيء، فشاركت بالمسيرة كطريقة رمزية بسيطة لعلي أقدم شيء".
نقل أحمد فور إصابته إلى مجمع فلسطين الطبي لتلقي العلاج حيث بقي يومين متتالين قبل أن يحول إلى مشفى العيون في المملكة الأردنية، إلا أن المحاولات الساعية لإعادة بصره قد فشلت، ولم يستطع الأطباء سوى إزالة الشظايا المتبقية في عينيه،" أخبروني أني إذا رأيت ضوء سيكون هناك أمل بإعادة البصر لعيني، بعد إجراء عملية ثانية، إلا أنني حتى الآن لم أرى الضوء".
أحمد أيوب والذي كان يعمل بالنهار مراسلا في وزارة المالية، ويشغل باقي وقته كعضو في جمعية اللد الخيرية وضابط كشافة في فرقة فرسان اللد الكشفية، قلما ما ينهض من سريره في منزله الكائن في مخيم الأمعري في مدينة رام الله، محاولا أن يدرب أذنيه على التقاط الأصوات، وخاصة تلك الصادرة من بين أزقة المخيم، "لا أستطيع الخروج لوحدي أحتاج لمساعدة في إرشادي للطريق، ولكني أجرب وأحاول حتى أستطيع التأقلم"، إصابة أحمد قلبت حياته فجأة وبات أقل عمل يسعى لتنفيذه يتطلب منه جهد مضاعفا ما جعله بحاجة لمساعدة أفراد أسرته بأقل نشاط يرغب أن يقوم به،" أتمنى أن أرى مرة أخرى ولو بعين واحدة".
[caption id="attachment_54628" align="alignleft" width="400"] أحمد يحاول أن يظهر متماسكا وقويا أمام عائلته وأصدقائه، مخفيا ألم فقدانه البصر[/caption]اشتقت لرؤية أمي والمخيم
يحاول أحمد أن يظهر متماسكا وقويا أمام عائلته وأصدقائه، مخفيا ألم فقدانه البصر وعدم تمكنه من القيام بالنشاطات التي كان معتادا عليها يوميا،" كنت الساعة السابعة والنصف صباحا أكون في العمل، وعندما أنهيه كنت أبقى موجودا في المخيم والجمعية وبين أصدقائي، إلا أنني الآن أجلس في البيت طوال الوقت".
شهور قليلة مرت ولكنها تساوي قرون من الزمن لدى أحمد المتلهف لرؤية عائلته وأصدقائه، المتلهف لرؤية المخيم بأزقته وحاراته وأطفاله، "اشتقت لرؤية أمي وأبي وأخوتي وأصدقائي وجيراني والمخيم، أشعر أنهم تغيروا جميعا، فلا يوجد بذاكرتي سوى الصور القديمة لهم"، مضيفا،" المخيم والذكريات ما يدور في ذهني الآن".
تجلس أمامه طوال الوقت، وتبكي بصمت متألمة على ألم نجلها بعد أن تضع يديها على فمها خوفا من أن تصدر أي صوت قد يؤلم أحمد الذي سلبت إصابته السعادة من عيون والدته وعائلته التي كانت تسعى أن ترى نجلها يبني حياة أسرية،" عندما يعود لي البصر، سأبني أسرة وأدخل الفرحة لمنزلنا، بعد أشهر من الغصة والحزن".
أحمد لاجئ من مدينة اللد المحتلة عام 1948، شاء القدر أن يمنحه الاحتلال ولأول مرة تصريح لزيارة مدينته المحتلة قبل أن يصاب،" إنها بلدي وأغلى شيء على قلبي، كان يسكن بها أهلي وأجدادي، إني أفتخر بها وأتمنى أن أعود وأسكن بها فور أن تتحرر فلسطين".
ويروي أحمد أن ذكرى مسجد اللد وخان الحلو اللذان زارهما في المدينة ما زالا عالقان في ذهنه،" ما زال عالق في ذاكرتي كل شيء رأيته في اللد، لا أنسى شيء منها، وأتمنى أن أزورها مرة أخرى قريبا وقد استعدت البصر" .
رؤية الأطفال يلهون في زقاق المخيم، رؤية والدته تحضر له فنجان قهوة الصباح، حلم بات يراود أحمد أيوب، المتمسك به حتى النهاية، فهو يؤمن أن المحاولات لم تنته بعد وما زالت هناك أمل بعودة البصر لعينيه "عودة البصر لي، هو إحيائي من جديد بعد أن متت، هو فقط ما أتمناه وما أريده من هذه الحياة".