لا تُعد ولا تحصى التقارير التي تتحدث عن تهويد القدس المحتلة، وتغيير ملامحها والاستيلاء على عقارات الفلسطينيين فيها، لكن القليل تتحدث عن محاولات "الإستيلاء" على الملامح البشرية وخطط أسرلة الفكر. "الخدمة المدنية الإسرائيلية" هي إحدى وسائل الأسرلة ومحاولة "الدمج" بهدف الإذابة. عم تتحدثين؟ لا وجود لهذا الأمر في القدس، هكذا كانت ردة فعل أغلب من سألتهم عن الموضوع. قالت إحداهن بنبرة أكيدة: "هذا الأمر يواجه أهلنا في الداخل، ما شأننا نحن في القدس والخدمة المدنية؟!".
لكن أحاديث قد تجريها صدفة تنبؤك بما كنت جاهله! الخدمة المدنية (1) هي مصطلح عام يصف "الخدمة التي يقوم بها كل من لا يتجند للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وتشمل أطرها المراكز َالصحية والمستشفيات، والمدارس ورياض الأطفال، ومساعدة الأشخاص ذوي الاعاقات، وغيرها".
وقد كانت الخدمة المدنية في بداية ظهورها بديلاً للفتيات اليهوديات المتدينات اللواتي يتم إعفاؤهن من الخدمة في الجيش. ويعطى كل يؤدي الخدمة المدنية في نهاية خدمته شهادة تشابه الى حد كبير الشهادة التي تمنح للجندي المسرح من جيش الاحتلال، بامتيازات شبيهة لتلك التي تعطي للجندي. كما يعتبر الخادم المدني جزءاً من الاحتياط للجبهة الداخلية، بمعنى أنه يمكن استدعاؤه مجددا للخدمة في أوقات الكوارث الطبيعية أو الحروب.
بناء على توصيات "لجنة عبري" الإسرائيلية تكثفت حملات التجنيد للخدمة المدنية منذ عام 2005 في صفوف من وصفوا بأنهم "الفئات السكانية المعفية من اداء الخدمة العسكرية". وبطبيعة الحال، كان المستهدف الأهم من عمليات تكثيف الترويج للخدمة المدنية هم الفلسطينيون، وبالأخص فلسطينيو الداخل، باعتبار الخدمة المدنية وسيلة لتشويه الهوية الفلسطينية الوطنية.
بدأت بعد ذلك تظهر على الساحة السياسية الإسرائيلية تعابير مثل "المساواة في العبء"، وقد طغت بكثرة في الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة، وتعني في إحدى تفسيراتها أن يفرض على الفلسطينيين ما يفرض على اليهود من واجبات باعتبارهم "مواطنين متساوين" في دولة واحدة. إحدى تلك "الواجبات" هي "الخدمة العسكرية"، وبما أن العرب يرفضونها جملة وتفصيلاً، إذن فلينخرطوا بالخدمة المدنية كبديل، وليخدموا مجتمعاتهم! هكذا تقول الدعاية.
رفض أهالي الداخل الفلسطيني بشدة برنامج الخدمة المدنية الطوعي حتى اللحظة، واعتبروه وسيلة لاستقطاب شبابهم إلى الخدمة العسكرية وصهرهم في بوتقة الأسرلة. هذا فيما ظن أهل القدس أن الدعاية تلك لن تنالهم، فهم ليسوا حاملين للجنسية الإسرائيلية (ليسوا مواطنين في عرف دولة الاحتلال)، ولكن الاحتلال لم "يبخل" في الاستثمار فيهم!
التجنيد من خلال بلدية الاحتلال والمراكز الجماهيرية
فلسطينية من القدس (طلبت عدم الكشف عن اسمها، سأرمز لها بـ ص.ف.) أبدت رغبتها في الحديث عن بعض ما تعلم فيما يتعلق بالخدمة المدنية في القدس. قالت لي: "هناك أكثر من 100 شاب وفتاة من القدس تم تجنيدهم للخدمة المدنية في العامين الأخيرين". ترجع ص.ف. إلى العام 2011 وتصف لي يوماً رأت في إحدى مباني بلدية الاحتلال في القدس 50 فتاة مقدسية ينتظرن دورهن للمقابلة لغرض التنافس على أربع شواغر أعلن عنها كـ"وظائف" في بلدية الاحتلال، تبين في النهاية أنها "شواغر" للخدمة المدنية. تصف ص.ف. دهشتها من الحماس البادي على وجوه الفتيات والتلهف للحصول على تلك "الوظيفة". تضيف:"علمتُ فيما بعد أن المنافسة كانت شديدة، وبدا لي وقتها أن الفتيات المتراوحة أعمارهن ما بين 18 - 20 عاماً، يعشن في ظروف اقتصادية صعبة". إضافة إلى محاولة تجنيد الفتيات للعمل في مؤسسات تابعة بلدية الاحتلال (كالمدارس على سبيل المثال)، تشير أحاديث النشطاء الشباب في القدس أن للمراكز الجماهيرية في مختلف أحياء المدينة دوراً مشبوهاً في ذلك. أحد تلك المراكز، ضمّ قبل عامين في مبناه فرعاً لجمعية إسرائيلية باسم "محشفاه توفاه" تعمل على تقديم خدمات تعليمية للطلاب مثل تعلم الحاسوب، وكان تجنيد الشباب للخدمة المدنية يتم من خلال تلك الجمعية، بإيهام الشباب أنهم يتطوعون لتعليم أطفال مجتمعهم. توصلتُ من خلال البحث إلى اسمين لشاب وفتاة مقدسيين عملوا من خلال هذه الجمعية لمدة سنة ومن ثم اكتشفوا الفخ الذي وقعا فيه، فانسحبا فوراً. أما اليوم فتشير المعلومات أن التجنيد يتم من خلال فرع لنفس الجمعية افتتح في مكتبة البلدية في وادي الجوز.
حجج ومحاولات اقناع
أما سامح عويضة، أحد الشباب المقدسيين المعارضين بشدة للخدمة المدنية، فكان أول احتكاك له مع الأمر عام 2007. حينها كان يعمل سامح في مقهى في مستشفى عين كارم الإسرائيلي، وهناك تعرف على 4 شباب فلسطينيين وشابة يؤدون الخدمة المدنية في المستشفى. يروي سامح عن محاولاته اقناع هؤلاء الشباب بفداحة ما يقومون به، يبدأ نقاشه من مبدأ وطني، شارحا للخادمين أن ما يفعلون هو "خدمة للمحتل"، وأنهم يعملون في برنامج ولد من رحم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. غالبهم لا يملك ما يرد به على كلام سامح إلا القول أن الحياة صعبة، وأن التسهيلات التي تمنح للخادم المدني، ومنها المعاش الذي لا يتعدى الألف شيكل شهرياً والمنحة الجامعية التي يوعدون بها، هي سببهم الوحيد للخدمة. يبدأ سامح معهم عملية حسابية ليثبت لهم أن الخدمة المدنية لن تحسن وضعهم الاقتصادي وأن العمل في أي وظيفة بأقل راتب ممكن في القدس سيوفر لهم ما هو أكثر. إلا أن الحجج الاقتصادية لم تكن الوحيدة التي ساقها هؤلاء لتبرير خدمتهم المدنية، فالغالبية من الشباب والفتيات المنخرطين لا يدرون ما هي "الخدمة المدنية" أصلاً. س.ع (20 عاماً) قالت أنها خدمت سنة كاملة، ولم تكن تعرف سوى أنها تتطوع وتخدم مجتمعها الفلسطيني، وتكسب القليل من المال لتتمكن بعد ذلك من الالتحاق بالجامعة. انهت س. ع. خدمتها وكانت أختها الأصغر على وشك اللحاق بنفس الدرب حتى التقتا بفتاة من الداخل الفلسطيني وصُدمتا حين علمتا من خلالها أن هذا العمل المُزين بقيم "التطوع" و"خدمة المجتمع" ما هو إلا بديل للخدمة العسكرية. وهذا ما أكدته سابقاً ص.ف. التي قالت أن نشر الوعي بين شباب القدس مُغيب حول هذا الموضوع، وأن أعداداً كبيرة من الذين يؤدون الخدمة المدنية يُغرر بهم، لا وبل أحيانا تسرق الأموال التي يوعدون بها كل شهر.
من ينشر الوعي؟
سامح عويضة بدوره روى عن محاولاته إثارة هذا الوعي عبر مخاطبة قيادات فلسطينية في القدس، وأخرى في الداخل منها أعضاء عرب في الكنيست الإسرائيلي كحنين زعبي وجمال زحالقة. وكان الجواب – حسب قوله – الوعود التي تقال مجاملة ومن ثم تضيع هباء. فأعضاء الكنيست حسب رأيه لن يولوا الموضوع اهتماماً كافياً لأن المقدسيين ليسوا أصواتاً محتملين لهم في أية انتخابات، إذ لا يُصوت أهالي القدس (غير الحاملين للجنسية الاسرائيلية) في انتخابات الكنيست. كما أشار سامح أن أياً من القوى الوطنية لم تقم ولو بنشر بيان حول الأمر – كأضعف الإيمان، كما تغيب المؤسسات الشبابية التي تتنبه لهذا الموضوضع. يذكر أنه تنشط في مجال مناهضة الخدمة المدنية "جمعية بلدنا للشباب العرب" ومقرها حيفا، ولكن جمهور الهدف في أغلب نشاطاتها هم الفلسطينيون في الداخل. ختاماً، لا يمكن القول بتاتاً أن الخدمة المدنية في القدس أصبحت "ظاهرة". لكن ليست "الظواهر" وحدها التي تستوجب حركات المناهضة وتنظيم حملات نشر الوعي، فالبشر أهم من الحجر. وإن كان الفلسطينيون في القدس قد ضعفوا في معركة الصراع على الأرض والأملاك، فما تبقى لهم كحصنهم الحصين هو الصراع على الفكر والهوية. (1) كانت الخدمة المدنية سابقاً تُسمى الخدمة الوطنية ولكن تم تغييرها بناء على توصيات لأجل تخفيف وقع كلمة "الوطنية" على الفلسطينيين المعارضين لها.