في عدوانه "الثالث"2014 على قطاع غزة أخفق جيش الاحتلال في القتال البري، وتكبد خسائر بشرية ومادية ومعنوية لم يعهدها في العدوانيْن السابقيْن، 2008 و2012، لكن حكومة نتنياهو الفاشية التي أربك حساباتها إخفاق جيشها لجأت لارتكاب جريمة تدمير قطاع غزة، وتنفيذ مذبحة إبادة جماعية، لإملاء شروطها السياسية الماثلة في مطالب، "التهدئة" مقابل إعادة تنظيم الحصار، الفصل بين قضايا غزة والضفة، التحكم في آليات استيراد وإدخال مواد إعادة بناء قطاع غزة، وصولاً إلى مطلب إنهاء الحصار مقابل نزع سلاح المقاومة الفلسطينية، المساوي لتجريد الشعب الفلسطيني من حقه المشروع في المقاومة الدفاعية ضد الاحتلال، جذر الصراع، وسبب الحروب الوحيد، ما يعني أن الحرب على غزة ليست حرباً بين دولتين كما تُصَور زوراً، بل هي، (ككل ما سبقها وما سيتلوها من حروب واعتداءات "إسرائيلية")، حرب عدوانية مبيتة شنتها دولة احتلال غاشم ضد شعب يكافح منذ عقود بمقاومة دفاعية مشروعة متعددة الأشكال لانتزاع حقه الطبيعي والمشروع في الحرية والاستقلال والعودة . ماذا يعني هذا الكلام بالنسبة إلى مطالب الوفد الفلسطيني الموحد في مفاوضات القاهرة غير المباشرة المتوقع استئنافها قريباً؟.
كالعادة يشكل الغطاء الدولي الثابت الذي تقوده الولايات المتحدة حائلاً دون تحقيق هذه المطالب، بل مظلة لتمرير جرائم حكومة نتنياهو الميدانية، وسنداً لتحقيق جوهر شروطها السياسية الاحتلالية. كيف؟
عِوَضَ أن يدعو أمين عام هيئة الأمم المتحدة لتشكيل لجنة دولية للتحقيق، تحت البند السابع، في جريمة حرب الاحتلال "الإسرائيلي" بحق المدنيين في قطاع غزة، وفي جرائم الاستيطان والتهويد والقتل المتواصلة في الضفة، وقبلها القدس، تمهيداً لمثول مجرمي الحرب في "إسرائيل" أمام محكمة الجنايات الدولية، اكتفى، (الأمين العام)، بإطلاق تصريح عن "الحاجة لإجراء تحقيق في دوافع وأسباب ونتائج القصف "الإسرائيلي" لبعض المدارس والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة"، بل ولم يأمر بتشكيل فريق للتحقيق في ذلك حتى الآن، ويبدو أنه لن يأمر استجابة للضغط الأمريكي.
وأكثر، تشير الدلائل الأولية إلى وجود عقبات جدية أمام فريق التحقيق الذي شكله مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة "للتحقيق في شبهة ارتكاب "إسرائيل" جرائم حرب". فقد مرت شهور من دون أن يتحرك فريق التحقيق هذا، ما يشي باحتمال أن يتراجع رئيسه، وربما كامل أعضائه، عن القيام بالمهمة حتى النهاية، ليس بسبب رفض "إسرائيل" المعلن التعامل معه، فقط، بل أيضاً بسبب ما يتلقاه ويتعرض له في الخفاء من تهديدات وضغوط من "إسرائيل" وحلفائها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
ويبدو أن أعضاء الفريق أدركوا أن لا جدوى من الاستمرار في المهمة، وأن مصير جهدهم سيكون، في أحسن الأحوال، نفس مصير جهود فريق زملائهم، لجنة "غولدستون"، التي تحول تقريرها حول عدوان 2008 على قطاع غزة إلى مجرد ملف في أرشيف زاخر بتقارير دولية تدين "إسرائيل" حال الضغط الأمريكي دون تحويلها إلى إجراءات عملية ضدها.
وكالعادة أيضاً، عِوَضَ إلزام "إسرائيل" كدولة احتلال ارتكبت جريمة تدمير شامل قل نظيرها بدفع تكاليف إعادة بناء قطاع غزة، يتيح الغطاء الدولي الثابت بقيادة أمريكية لـ"إسرائيل" التملص من جريمتها، بل وتحويل إعادة البناء بتمويل عربي ودولي إلى مشروع ربح مالي يوفره لها توريد مواد البناء.
وأكثر، عوض اشتراط تمويل إعادة بناء القطاع بتأييد المسعى الفلسطيني في مجلس الأمن إلى إصدار قرار يقضي بإنهاء الاحتلال خلال مدة زمنية محددة، وبعدم تكرار جريمة تدمير القطاع، كان لافتاً اشتراط تمويل وتنفيذ خطة إعادة بناء القطاع بالتوصل إلى "تهدئة ثابتة ودائمة"، حسب ما أعلن وزير الخارجية الأمريكي بعد انتهاء أعمال المؤتمر، وكأن ثمة إمكانية واقعية لمثل هذه التهدئة من دون إنهاء الاحتلال ووقْف جرائمه واستباحته الشاملة لكل ما هو فلسطيني.
وعِوَضَ الربط بين التصعيد الميداني في الضفة وقطاع غزة وفشل جولة التفاوض الثنائي الأخيرة برعاية كيري ممثلاً للإدارة الأمريكية، تواظب الإدارة الأمريكية على إعداد خطة لاستئناف المفاوضات الثنائية بالشروط الفاشلة ذاتها، بهدف إحباط المسعى الفلسطيني في التوجه إلى مجلس الأمن لوضع سقف زمني لإنهاء الاحتلال. ماذا يعني هذا الكلام؟
على الرغم من النجاح في منع "إسرائيل" من حضور مؤتمر القاهرة لإعادة إعمار قطاع غزة. وعلى الرغم من نجاح المؤتمر في الحصول على وعد بتوفير الأموال اللازمة لإعادة بناء غزة، بل وتجنيد مبلغ إضافي لخزينة السلطة الفلسطينية. وعلى الرغم من الرسالة السياسية الكبيرة والمهمة التي وجهها الرئيس المصري، السيسي، لحكومة نتنياهو، في خطابه أمام المؤتمر، حيث قال ما جوهره: "طريق القاهرة والرياض . . يمر برام الله"، وهو ما أُعتبر - بحق - رداً رسمياً عربياً على التصريحات الأخيرة لأركان حكومة المستوطنين بقيادة نتنياهو حول الحل الإقليمي للصراع على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته وحقوقه الوطنية والتاريخية.
نقول على الرغم من كل هذه النجاحات التي لعبت مصر فيها دوراً أساسياً، إلا أن ثمة لـ"إسرائيل" وجرائمها وشروطها التفاوضية حليفاً أمريكياً ثابتاً يدافع عنها باستماتة وفي الحالات كافة. ما يعني أن ثمة عراقيل لا يستهان بها تعترض طريق مفاوضات "تثبيت التهدئة" المتوقع استئنافها قريباً، وطريق الوفاء السريع والكلي والمنتظم بتقديم التبرعات الموعودة لإعادة بناء قطاع غزة.
قصارى القول: "لم يكن بوسع حكومة الاحتلال أن تكون على هذا القدر من الفاشية أثناء الحرب، وعلى هذا القدر من الصلف تجاه شروط وقف العدوان وإعادة بناء قطاع غزة، لولا دعم الولايات المتحدة للحرب على غزة والتغطية على جرائمها، ولولا عملها في السر تارة وفي العلن تارة، على تحويل الشروط التفاوضية "الإسرائيلية" إلى شروط إقليمية ودولية.
ولولا أنها بما لها من نفوذ دولي وإقليمي متعدد الأشكال والمجالات، تحمي "إسرائيل" كدولة احتلال وإرهاب، وتحول دون مثول قادتها كمجرمي حرب أمام محكمة الجنايات الدولية، بل وتحمي، بقيادة إدارة أوباما، (التي وُصفت يوماً بالتوازن)، أشد حكومات "إسرائيل" صلفاً وتطرفاً ويمينية وأكثرها استعداداً لارتكاب أبشع أشكال جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
علي جرادات/ الخليج الإماراتية