شبكة قدس الإخبارية

"سيكولوجيا الاستشهاد".. كيف نفهمها؟

هيئة التحرير

عبد العزيز محمود: لا يمكن للماديين ولا أبناء الحضارة المادية الغربية، الوصول إلى شرف مفهوم "سيكولوجيا الاستشهاد" في الثقافة الإسلامية، إن ذلك المفهوم الراقي الذي برز في الدين المسيحي، ثم تطور وتبلور في الإسلام، حتى وصل إلى ذروته الرمزية مع ثورات الشعوب، هو انتصار للحرية ضد القهر، والعدل ضد الذل، إنه ليس غيابا من الحياة بقدر ما هو إنقاذ للحياة.

ليس الشهيد في المفهوم الإسلامي مهووسا بالحور العين كما يتبدى بالخطاب السطحي، ولا طامعا في بطولة استعراضية مجانية كما تتوهم الأدمغة الشعبية التالفة، إنه يُضحي بالذات الفردية الأنانية لأجل الجماعة الإنسانية، هو حارس المعنى وشاهد الحقيقة، روحه "تصعد" لا "تُقبض" لأنه تحول من "لحم" إلى "حلم". إنه حي لأنه أصبح فكرة تتجاوز حدود العمر، بعكس القتيل الذي أصبح جثة لا تتجاوز تراب القبر.

لا يستهدف الإسلام سحق الشهيد روحيا، من خلال رفضه للانتحار، إنه يستبشع هذا الفعل، لأنه ينتهك الشرط الإنساني في الأساس، يكتسب الإنسان إنسانيته من خلال الولادة دون إرادته والموت دون إرادته، وابتكار طرائق للعيش والحرية في هذا النفق الطويل المعتم، أي إخلال بهذا الشرط هو إخلال بكون الإنسان إنسانا، من هنا يمكننا فهم سر تجريم الانتحار وتمجيد الاستشهاد، رغم شراكة الألم الجسدي في الحالتين.

المنتحر ذات فردية أنانية مغلقة تنفي جسدها من الحياة، أما الشهيد روح جماعية رحبة تزف جسدها فداء للحياة، المنتحر يقدم نفسه "ضحية" أما الشهيد فيهب نفسه "هدية"، المنتحر مُفعم بانتظار نتائج لحظية فورية، والشهيد مسكون بـ "الحلم" الذي يطمح لآمال جماعية وإنسانية. المنتحر موت ضيق لا يتجاوز نطاق الأُسرة، أما الشهيد موت واسع يُجسد آلام أُمة بأكملها. قصيدة الشهيد لا تُضاهيها أبدا قصة المُنتحر، خصوصا الاستشهاد في فلسطين، لما تحمله من قيمة عليا عند الشهيد أو الفدائي، كلما أخذوا شبرا من فلسطين، اتسعت فلسطين خارج فلسطين، صارت فلسطين زنزانتهم، ووطن كل أحرار العالم، صارت هوية كونية لا هوية مكانية، هي خيمة لمستضعفي العالم لا مخيّم للاجئين، عضّة دائمة في الضمير، وجرح مفتوح في الروح. أحيانا يتهيأ لي أن الله اصطفاها دون غيرها لهذه المحنة المؤلمة، لتكون مالكة العدل وملكة الحقيقة، يخطئ من يتوهم أن فلسطين مساحة جغرافية تخص الفلسطينيين وحدهم، إن فلسطين وطن معنوي كوني، تحولت من خلاله عبر مسيرة نضال شاق إلى رمز لكل مستضعفي العالم، وقبلة للحالمين بالحرية على اختلاف ألسنتهم وألوانهم.

( هل يجرؤ أن يدّعي أحد أنه أكثر فلسطينية من راشيل كوري مثلا؟) ليست فلسطين مجرد دولة مغتصبة، إنما أم الألم وحارسة الألم. إنها "عقيدة" لا "جنسية"، و"هوية روحية" لا "اوراق ثبوتية"، وليس القرآن بالنسبة لفلسطين هو نفسه القرآن بالنسبة لسائر بلاد المسلمين.

هناك شيفرات شديدة الخصوصية في النص القرآني لا يدركها في ذروة تجلياتها إلا الشخص الفلسطيني الذي يعايش يوميا اللجوء وعنف وغدر واستكبار الاحتلال، إنه دستور حياة، يثبت يوميا صدق تنبؤاته عن لصوص الأرض الذين (كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم).

ولم تكن رحلة إسراء محمد صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من 1400 عام إلى (المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله) أي فلسطين كلها، سوى دعم رمزي لأصحاب هذه الأرض المسروقة، وحث المسلمين على عدم التفريط بها.

هكذا تتحول فلسطين في الإسلام من بقعة جغرافية إلى عقيدة دينية، ومن وديعة تتوارثها الحضارات إلى وديعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وخزينة صحابة النبي الكِرام