داخل فلسطين، وعلى خريطة الصراع، هناك وضع جديد، استراتيجية الحفاظ على الستاتوس كو (الوضع القائم)، عبر القمع والتهويد والعزل من جهة وعبر أجهزة السلطة الفلسطينية من جهة أخرى، تتلقى ضربة قوية.
هي استراتيجية رئيس حكومة نظام "الأبارتهايد الكولونيالي"، بنيامين نتنياهو، الخداع الذي أدمن عليه، (هو وعصابته)، بأن "إسرائيل" قادرة على إدامة الردع لحقبة طويلة، تذروه الرياح. المستعمر لا يكل عن إيهام نفسه بأن الآخر، الذي يستعمره، سيخضع في نهاية المطاف.
بغض النظر عما ستسفر عنه المحاولات المتكررة الفاشلة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، فإن ما كان لن يكون. حكومة نتانياهو، لم تستوعب بعد الصدمة. كانت هذه الحكومة الاستعمارية أمنت بالفرضية أن حماس، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بشكل عام، مُنهكة، ومتآكلة، بسبب اجتماع الحصار الإسرائيلي مع الحصار العربي الرسمي (المصري بشكل خاص)، وبالتالي فليس بمقدورها الردّ، أو خوض حرب دفاعية- هجومية من نوع جديد.
ليس هذا فحسب، بل أنه بعد كل هذا الدمار وجرائم الإبادة التي ارتكبها المستعمر بحق المدنيين، تواصل حركة المقاومة، موحدة بفصائلها ومتماسكة بقياداتها، التحدي بصورة أسطورية.
المعركة لم تنته، وتزداد صعوبة وقسوة، العدوان لم يبدأ في غزة، حيث المقاومة الفلسطينية المسلحة، بل في الضفة الغربية، حيث، رغم تجريد الناس من السلاح واستتاب أمن الاحتلال بفضل التعاون الأمني الوثيق مع أجهزة السلطة الفلسطينية، لم تتوقف الممارسات الاستعمارية التي تتجلى في نهب الأرض وتهويد المكان وطرد السكان، وتضييق المعازل على سكانها الفلسطينيين، على مدار عقدين من التفاوض العبثي.
حكومة الوفاق التي تشكلت بين فتح وحماس، بعد انقسام كارثي طويل، قضت مضاجع صاحب نظرية الحفاظ على الوضع القائم. هو لا يريد تسوية سياسية، مهما كانت هزيلة. هو يريد كل الأرض، كل فلسطين، مع قبول أصحابها بالعبودية.
إن اختفاء وقتل المستوطنين التي سوقها نتنياهو كذريعة للاجتياح الوحشي لمدن ومخيمات وقرى الضفة، لم يكن سوى ذريعة لخطة مُعدّة سلفا، كان الهدف إجهاض أي تحول ممكن من شأنه نسف الوضع القائم.
كان من شأن حكومة فلسطينية موحدة التي أبدت فيها حماس قدرا عاليا من البراغماتية، أن تنسف نظرية نتنياهو، وفي الوقت ذاته أن تخلق دينامية لحراك دبلوماسي عالمي يُضيق الخناق على "إسرائيل"، والأهم أن يخلق دينامية لحراك شعبي ميداني متدرج في منطقة الضفة الغربية. هذا كان سيحصل حتى لو كان رئيس السلطة الفلسطينية غير راغب بذلك.
قبل أن يُصدم نتنياهو من مستوى ردّ المقاومة الفلسطينية، كان قد فوجئ من الردّ الشعبي على عملية الاجتياح لأراضي الضفة الغربية، ومن عملية تحرير حي شعفاط المقدسي لعدة أيام، على يد الشباب الفلسطيني المناضل. لقد دفع هذا التطور، (الرد الشعبي) سلطة الاحتلال إلى تنفيذ تراجع في الاجتياح خاصة وأن الغضب بدأ أيضا يتحول ضد السلطة الفلسطينية (الهجوم على المقار الأمنية في رام الله).
لم تخرج "إسرائيل" منتصرة من هذه الجولة العدوانية حسب الأهداف التي وضعتها. هي أرادت تحقيق الردع والهدوء لفترة طويلة على كل الجبهات ريثما تكمل تهويدها واستعمارها لفلسطين، وريثما تتآكل كليا مكانة القضية الفلسطينية وتصبح في طي النسيان.
هكذا تلقت عقيدة الردع ضربة أخرى، فالمقاومة لا ترتدع عن الدفاع عن نفسها، وعن شعبها كلما تمادى العدو، والقضية الفلسطينية تعود إلى الواجهة، وتحظى بدعم عالمي، على المستوى الشعبي على الأقل، بصورة غير مسبوقة منذ عشرين عاما، فمظاهرات التأييد تجتاح شوارع مدن العالم، وحملة المقاطعة تكتسب زخما جديدا وتثير الرعب في نفوس المستعمرين.
حتى لو تم التوصل إلى اتفاق لوقف النار، وتحقق الهدوء لسنوات طويلة، على حدود قطاع غزة، فإن التفاعلات التي أطلقتها جولة الصراع الراهنة، وبالتحديد الصمود الأسطوري، ستتواصل على المستوى الشعبي، في الضفة والقدس، وفي الشتات والمهاجر، وفي داخل الخط الأخضر، وفي أروقة المؤسسات الدولية، أما على المستوى العربي الشعبي، فإن عودة اليقظة والتعاطف والمساندة أتية لا ريب في ذلك، وأن أنظمة العار والهاربة من شعبها نحو القمع، ونحو إسرائيل، ستخضع لحساب شعبي عسير.
كان أحد المعيقات الأساسية لإطلاق هذا الزخم، هو السياسة العقيمة التي اعتمدتها السلطة الفلسطينية، والتي وإن اضطرت إلى مجاراة روح المقاومة بعد مرور أيام طويلة من بدء العدوان، فإنها لا تزال مترددة وعاجزة عن التقاط اللحظة التاريخية، سواء على مستوى الميدان أو على مستوى الساحة الدولية.
يمكن الاسهاب بتحليل حالة الفراغ القيادي في الضفة الغربية، ونقدها، ولكن قطاعات واسعة من الناس بدأت تستعد لتغير من نمط حياتها، وهو نمط يناسب حالة تحول شعبي في مواجهة الاحتلال، هذا التغير سيصل النخب أيضا، التي استرخت طويلا.
يتجاهل نظام الأبارتهايد الكولونيالي أن الانفجار ليس إلا مسألة وقت، ولكنه يعترف بذلك، بشكل غير مباشر، حين يصعّد من إجراءاته القمعية، في محاولة للحيلولة دون الوصول إلى ذلك.
إن الإقدام على نفي نائبة في المجلس التشريعي الفلسطيني، عن الجبهة الشعبية، المناضلة خالدة جرار إلى مدينة أريحا بأمر عسكري، من الدلائل على المخاوف الإسرائيلية، لقد تركزت الإجراءات القمعية منذ سنوات، على قيادات ونواب حماس، ولكن الاحتلال يدرك الآن، وعبر خبرائه أن وضعا شعبيا عاما جديدا آخذ في التشكل، وهو آت لا محالة.
إن المسألة لا تقتصر على حماس فحسب بل على الجميع، ما معناه، أن علينا أن نستعد لمرحلة من الكفاح والصراع الطويل، أي مغادرة حالة السكون، وفخ الانغلاق على خيار واحد، والشرط هو تحرير الإرادة، التي سوية مع العقل الابتكاري، تبدع الوسائل والاستراتيجيات.