على الرغم من ضخامة الجهود التي تبذلها سلطات الاحتلال ومنذ عشرات السنين في سبيل الفصل بين سكان الضفة الغربية والقدس المحتلتين عام 1967 وبين فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 إلا أن هؤلاء السكان حافظوا على درجات عالية ومتقدمة جدا من العلاقة والترابط الاجتماعي والثقافي، وظلوا متمسكين بهويتهم الفلسطينية الموحدة.
فمنذ احتلالها للأرض الفلسطينية تحاول دولة الاحتلال ان تسلخ السكان الفلسطينيين في الداخل المحتل عن بعدهم التاريخي والإنساني مع السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس المحتلة، وتحاول أن ترسخ في عقولهم ومنذ الولادة أنهم مواطنين إسرائيليين يتبعون لأقلية عربية داخل الدولة.
هؤلاء الفلسطينيون سواء من الداخل أو من القدس والضفة، عملوا وبكل ما أوتوا من قوة لمواجهة هذا النوع من التدجين الإنساني، وكانوا حريصين وعلى مر السنين على إبقاء خط التواصل المتبادل موصول، رغم كل النكسات والنكبات التي حدثت لهم على هذا الخط.
الجهات الرسمية وحتى الشعبية داخل دولة الاحتلال تقر وبشكل جلي بفشلها في إحداث أي شرخ في العلاقة الأيديلوجية والثقافية والحضارية بين الفلسطينيين، على الرغم من نجاحها في الفصل الجغرافي بينهم.
الكاتب في صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية "يوسي شاين" يقول في مقالة له نشرت في وقت سابق "إن ما يجب أن يقلق الغالبية اليهودية في إسرائيل هو ليس التوجهات الانفصالية لدى عرب الداخل وفقدان الأرض، وإنما فشل إسرائيل في الفصل بين الفلسطينيين في المناطق الفلسطينية والعرب في الداخل".
الاحتلال يقر بفشله
ويجري "شاين" مقارنة بين ضم روسيا لجزيرة القرم والمساعي الإسرائيلية لضم المثلث إلى السلطة الفلسطينية كبديل للمستوطنات، ويقول "إن إسرائيل ليست أوكرانيا، والدولة الفلسطينية، إذا ما تمت إقامتها، ليس روسيا، والتحدي القومي لإسرائيل يكمن في الانفصال عن الضفة الغربية والعمل لدمج المواطنين العرب في مختلف مجالات الحياة وإحباط اندلاع العنف في فترة الأزمات، وضعضعة التوجهات المتآمرة من أجل تغيير الطابع اليهودي للدولة باسم الديمقراطية".
من المعروف لدى الجميع أن فلسطينيي الداخل المحتل يتمتعون بمقياس كبير من الحكم الذاتي الثقافي، كما أن لديهم قيادة عامة تتمثل في لجنة المتابعة العليا والتي لم تعترف بها سلطات الاحتلال، وفي عام 2006، حاول سياسيون ومثقفون من الداخل دفع فكرة الحكم الذاتي ومنح حقوق جماعية للأقلية العربية الفلسطينية من خلال "وثيقة الرؤية" التي اعتبرت "إسرائيل" وليدة مشروع استعماري.
ولا تزال مساعي فلسطينيي الداخل متواترة حتى اليوم للمطالبة بالاعتراف بهم كمجموعة قومية أصيلة تتمتع بحق اختيار ممثليها بشكل مباشر وإنشاء مؤسساتها القومية في مختلف مجالات الحياة، كل ذلك كان له الأثر الأكبر في الحفاظ على الوحدة الفلسطينية في الداخل المحتل ولو بالحد الأدنى أولا، وثم الحفاظ على التواصل الإنساني والثقافي مع الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس.
الهجة في القدس اشرس
وفي القدس المحتلة، تعمل سلطات الاحتلال بكل الوسائل من أجل سلخ السكان الأصليين للمدينة عن مدينتهم، ويعمل ليل نهار من اجل مسح الهوية العربية الفلسطينية عن المدينة سكانها.
فتارة تعمل سلطات الاحتلال على تفريغ المدينة من سكانها الفلسطينيين بإجبارهم على ترك مناطق سكناهم بصورة قسرية من خلال سحب الهوية المقدسية منهم، وتارة تقوم بالتضييق عليهم وممارسة أبشع أنواع الفصل العنصري بحقهم.
ولا تكتفي بهذا القدر، فقد شكلت سلطات الاحتلال في القدس المحتلة، المؤسسات غير الرسمية والتي تدعم فكرة طمس المعالم العربية عن المدينة وسكانها، وعكس صورة للعالم الخارجي أن هؤلاء السكان من العرب في المدينة المقدسة إنما هم من المهاجرين العرب الذين استقروا في المدينة إبان احتلالها، هربا من القمع الذي كانت تمارسه حكوماتهم بحقهم، أو إنما هم أقلية صغيرة توفر لهم الحكومة جميع الامتيازات التي من الممكن أن تتمتع بها أية أقلية مثلهم في أي بلد آخر وأفضل.
لكن، على الرغم من هذا كله. إلا أن المقدسيين لا يألون جهدا في الصمود في وجه هذه الممارسات، وكذلك الحفاظ على التواصل الحضاري والثقافي وحتى الاجتماعي والديموغرافي مع سكان الضفة الغربية وفلسطينيي الداخل المحتل.
العديد من المؤسسات والجمعيات الأهلية الناشطة في المدينة المقدسة، كانت ولا تزال تبذل جهودها من أجل الحفاظ على خط التواصل هذا، بل وتنفذ النشاطات والمشاريع الشعبية التي تهدف لترسيخ هذا المفهوم.
لا شك أن الجدار الذي وضعته "إسرائيل" على الحدود مع الضفة الغربية والقدس المحتلة، والذي اقتطع مساحات واسعة ليلتف حول المدن الفلسطينية كالأفعى يمثل نوع جديد من أساليب الترانسفير الإسرائيلية الذي قطع أوصال الأرض الفلسطينية، لكن ذلك كله لم يمنع الفلسطينيين من إجياد الوسائل التي من شأنها أن تمنع مخططات الاحتلال لتقطيع أوصالهم الثقافية.
وفيما يتعلق بالقدس، يصر المقدسيون على بقائهم في المدينة المقدسة، الأمر الذي يشكل هاجسً دائماً لدولة الاحتلال إلى درجة أن هذا الوجود بحد ذاته يمثل "القنبلة الديمغرافية" التي قد تؤدي إلى الانفجار في أي لحظة.
وبين التهجير الهادئ وتكاثر العرب وتحديهم لإجراءات الاحتلال ومحاولاته لقطع تواصلهم، ستبقى المواجهة محتدمة بين محتل يريد الاستحواذ على كل شي وبين مضطهد يصارع البقاء في أرض آبائه وأجداده ويبذل الغالي والنفيس للحفاظ على هويته وتواصل أركانه.