شبكة قدس الإخبارية

الطيب اردوغان.. و"خطاب المؤامرة"

٢١٣

 

أسامة عباس

يبدو أنّ الذهنية العربيّة والإسلاميّة ما زالت متشبعة بخطاب المؤامرة، وهذا يفرض نفسه على الخطاب والواقع السياسيّ ليس لأننا شككنا ولو للحظة بوجود المؤامرة الشيطانيّة التي تحاك للعرب والمسلمين منذ بدايات الاستعمار الغربي الحديث - فهذه المؤامرات موجودة طالما وجدت الدول - بل طالما وجدت إرادة الاستعمار والهيمنة على الآخر ومقدرات الأمم الأخرى، ومتى وجدت أطراف داخلية قابلة للاستلاب والاختراق.

فالوجود الموضوعي للمؤامرات لا شك فيه، ولكن مواجهتها وطريقة معالجتها هو ما يصنع الفارق بين سياسيّ وآخر، وبين دولة وأخرى.. وفي هذا السياق، أقترح التمييز بين مفهومين للحالة نفسها، الأول: "المؤامرة" والثاني "المخططات"، فهما يفترقان عن بعضهما في مستوى المعالجة، حيث يتم التعامل مع "المؤامرة" ليس كحتمية تاريخية مستديمة، بل كمخطط قابل للتفكيك والإفشال، عن طريق طرح مخططات مواجهة وممانعة. فالمؤامرة تقف عند مستوى الخطاب، الذي يمكن استغلاله لتكريس الاستبداد والفساد وإرهاب الأمة وتخويفها وإبعادها عن تحقيق مصالحها ومطالبها بالحريات والحقوق، وأمّا المخططات فتنقل خطاب المؤامرة إلى برامج استراتيجيّة وواقعيّة لمواجهة "المؤامرة" مباشرة، يكون الشعب شريك في المواجهة من خلال الصراع الفكري، وتطوير الوعيّ السياسيّ الجماهيريّ، وتحصين المجتمعات بالحريات والحقوق، وتنمية اقتصاديّة مستدامة.. فقط بهذه الاستراتيجيّة يمكن تحييد الاختراق الخارجي من خلال الفساد السياسيّ والماليّ والثقافيّ، واستغلال الفقر والبطالة والأميّة والقمع والاستبداد كمدخل للتدخلات الخارجيّة.

استمعت لخطابات الطيب رجب أردوغان، على أثر فضيحة الفساد الأخيرة، والتي ما زلنا لم نشهد عمقها وتفاصيلها ونقف عند حقائقها وتداعياتها.. ولكنّ الملفت للنظر، أنّ خطاب المؤامرة عند الطيب أردوغان يتقاطع بشكل كامل مع رؤساء دول عربية، وتتشابه بشكل يثير العقل النقدي: المؤامرة الكونية ضد الدولة، أطراف داخلية عميلة ومدسوسة تحركها أطراف خارجيّة، وسائل إعلام تسعى لتشويه الدولة والنظام، تفكيك الدولة وإفشالها، عدم وجود معارضة على الواقع بل مجرد ظاهرة صوتيّة وإعلاميّة، عصابات إرهابيّة تستغل الدين، الشعب كله يقف مع حكومته ضد المؤامرة، التخطيط للمؤامرة بدأ منذ فترة طويلة، تدخّل سفارات وأجهزة مخابرات خارجيّة في إثارة وتوجيه المؤامرة. والكثير من الأمثلة التي تتقاطع في خطاب جميع الرؤساء والسياسيين الذين يتحدثون عن المؤامرة. وكل هذه التعبيرات أخذتها من خطابات أردوغان الأخيرة، ويمكن بسهولة ربطها، مثلاً، بتعبيرات بشار الأسد وكل من يقف خلفه.

وهذا التشابه في خطاب المؤامرة الذي يستفز المنطق والعقل، يدفعنا مباشرة للمقارنة والتساؤل: لماذا تشابه الخطاب رغم الاختلاف الكبير بين أردوغان والأسد مثلاً؟. فلا يمكن إلا لعقل جاحد أن يقارن بين إنجازات أردوغان الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة والدستورية والتعليمية وغيرها، وقبل كل ذلك شرعيّته الدستوريّة والديمقراطيّة، وبين الأسد وشرعيّته المفقودة أصلاً، وإنجازاته في تفكيك سوريا وشعبها، ووراثته لنظام أبيه الذي أوغل في الفساد والقمع والطائفيّة السياسيّة، وأثبت لنا أنّ الولد سر أبيه. إذاً لماذا الالتقاء والتشابه في الخطاب رغم التنافر؟!

يبدو أنّ المنظومة السياسيّة بحد ذاتها، ايا كانت، تفرض على السياسيّ تبني نفس الخطاب، فالإنسان بطبعه يستخدم المنظومات الدفاعيّة النفسيّة لمواجهة التحدي والتهديد لوجوده وشخصيته. هذا التصرف النفسيّ والسياسيّ موجود في الفطرة والطبيعة البشريّة، فكيف إذا وجدت المؤامرة حقيقة في الواقع؟، وكيف بنا إذا اجتمعت منظومة المصالح والمواقف لخلق هذه المؤامرة حتى وإن لم تكن موجودة؟. حينها لا مكان في السياسة إلا لغة المؤامرة. إذا هناك أسباب للتشابه في الخطاب، أولها: ما يتعلق بالفطرة النفسيّة البشرية للسياسيّ، وثانيها: المنظومة السياسيّة بحد ذاتها، وثالثها: وجود المؤامرة حقيقة.

رغم الاختلاف بين أردوغان والأسد، فقد التقى الخطاب لأنّ الأسباب الثلاثة متوفرة. ولكنّ المحقق لما بين "السطور" في خطابات أردوغان يجد الفارق، أو على الأقل بذور الاختلاف والافتراق بين الخطابين، فهل تنمو هذه البذور قريباً؟.

هذا الاختلاف يصنعه أردوغان في تحويله لخطاب "المؤامرة" إلى خطاب برامج واستراتيجيّات في مواجهة "المخططات". فأسلوب المعالجة والمواجهة يختلف من سياسيّ لآخر. أحدهم يعطي كل المبررات والفرص للتدخلات الخارجيّة ويُمعن في التسلط، ومصادرة إرادة الناس وحقوقهم، والثاني يُحصّن دولته سياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، ويشارك شعبه في مواجهة المؤامرات دون التفريط بالحريات والحقوق، بل تكون رافعة للمواجهة والممانعة. أردوغان لديه الفرصة في الابتعاد عن خطاب المؤامرة، وخاصة أنّ لديه الرصيد الهائل من الإنجازات، ولكنّ هذه الإنجازات لا تمنحه صكاً مفتوحاً للحكم في تركيا. أحياناً يجب على الزعيم الرحيل وهو في قمة إنجازاته. ومع ذلك، إذا خرج الرجل من أزماته المتتالية بمزيد من الإصلاح الداخلي، ومحاربة الفساد، وتجديد قيادات الحزب، وتعزيز مؤسسات الدولة واستقلاليتها، وفصل الدولة عن الجماعات والأحزاب والتوجهات السياسيّة، فإن الرجل لا شك سيخرج قويّا، ويكون زعيم تركيا الأوحد.