شبكة قدس الإخبارية

قضية فلسطين التي لا نعرفها

عبّاد يحيى

لعل أكبر جناية نرتكبها بحق قضية ما، هي أن نتحدث عنها ونتخذ مواقف بشأنها دون أن نعرف معطياتها وأحوالها على وجه الدقة واليقين. فكيف الحال إن تعلّق الأمر بقضيتنا الأهم ومحور وجودنا ونضالنا. بكثير من اليقين يمكن القول اليوم إننا نتحدث عن "القضية الفلسطينية" كأننا نعرفها تماما، إلا أن شحا مهولا في تحديث معلوماتنا بات السمة الغالبة على أي تناول للقضية الفلسطينية حتى في إطار الدفاع عنها أو مواجهة أعدائها.

قد يكون مؤذيا وعدائيا قول ما سبق، وتحديدا إن كان المخاطب هم الفلسطينيون والفلسطينيات، ولكن إنكار واقع الحال لم يعد مجديا ولا يحتمل الحذر والتروي. اليوم نحن نعرف فلسطين وقضيتنا كقضية مجرّدة وبحد أدنى من المعلومات "المعلومات بمعناها الأبسط"، وهذا الادعاء سار على السياسي والناشط والمناضل والشباب والنساء وغيرهم. إن التناول الإعلامي المجتزأ وسياسة المعازل الإسرائيلية الفعالة جعلتنا نمتلك معلومات عن تجاربنا الحية وما يقع في دوائرنا الضيقة، ولكننا بالكاد نعرف الكثير عن فلسطين كلها وشعبها المشرد في أرجاء الدنيا، وبغياب قيادة موحَّدة موحِّدة يتفاقم هذا الشح المدمر، يكفي أن نستمع لرواية الانتفاضة ممن عاشوها في مناطق مختلفة لندرك أنها تختلف كل الاختلاف عما خبرنا وعرفنا في منطقتنا.

وعند التمعن مثلا في واحدة من أكثر القضايا راهنية وجلبة في واقع القضية الفلسطينية وهي "الانقسام السياسي"، يمكن الوقوف على كثير من المعطيات والمعلومات المسقطة من النقاش العام، ويظهر إلى أي حد بات هذا العنوان العريض للمأزق الفلسطيني الراهن يخفي خلفه وتحته الكثير من المجريات والملابسات التي تكاد تصبح واقعا يهددنا، ويكفي القول إن الضخ الإعلامي المتواصل حول الانقسام وخطورته جعل قطاعات واسعة من الفلسطينيين تعتقد أنه أخطر من الاستيطان والمفاوضات، والأدهى أن مجرد التفكير في تجاوز طرفي الانقسام بات غير وارد والحل الوحيد أمام هذا المأزق هو "المصالحة".

789

في واقعة نادرة لم يحصل شبيه لها منذ سنوات جمع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ما يزيد على مئتين وخمسين شخصية متصلة أيما اتصال بالقضية الفلسطينية كما نعرفها في مؤتمره "القضية الفلسطينية ومستقبل المشروع الوطني" في الدوحة قبل أيام، كانت أيام المؤتمر الثلاثة مناسبة مهمة لتحديث المعلومات عن القضية الفلسطينية وإدراك إلى أي مدى بتنا متأخرين. الحشد شمل قيادات سياسية بدءا بخالد مشعل وصولا لصائب عريقات، وباحثيين أكاديميين لامعين حول العالم ونشطاء يقودون مقاطعة "إسرائيل" في كل مكان، وعلماء سياسة وديموغرافيا واقتصاد سياسي واجتماع ومؤرخين وغيرهم. لوهلة أولى يبدو إلى أي حد غابت القضية الفلسطينية في غمرة الأحداث العربية المتسارعة، وتراكمت على سطحها معطيات وتطورات لم يحفل بها أحد، وفي الوهلة الثانية يتضح إلى أي حد استسلم الفلسطينيون وقيادتهم لهذا التغييب. الأوضح أن كل المساهمات الأكاديمية الجادة والنقاش السياسي وحوارات المتضامنين وحملاتهم تقول مقالة واضحة؛ القضية الفلسطينية في مأزق طبعا إلا أنه يتحول من مأزق يمكن الخلاص منه إلى مأزق مستحكم سيطيل الأحوال الحالية لسنوات وسنوات.

بدت مواقف فتح وحماس متقاربة حد التطابق، وانتهت بدعوة أسامة حمدان لصائب عريقات للانضمام لحماس، كان المزاح تغيبا واضحا لحقيقة مأزق ما يعرف بالانقسام، لم يتحدث أسامة حمدان عن التنسيق الأمني واحتفى بالمقاومة السلمية، حتى ليكاد المراقب يسأل نفسه مرارا على ماذا هم مختلفون! يعلق السياسيون اليوم على ما يجري ولا يشاركون فيه، ومن يحاول صنع واقع مغاير هم شباب لا يمكنهم السير مع الأحزاب والفصائل ولا التقدم دونها، وتعصف بهم كل يوم أسئلة الإمكانيات وسط التهديد الأمني والفتور الشعبي. حتى الديمغرافيا التي لطالما عوّل عليها الوعي الشعبي والخطاب الديني تقول المعطيات إنها لم تعد جوادا رابحا ولو بعد حين، فالمتدينون اليهود ينجبون بنسب متصاعد وخصوبتهم في ازدياد. وعلى صعيد اللاجئين بالكاد تتوفر المعلومات عن أحوال مخيم اليرموك وبالكاد أيضا تتوفر معلومات جادة ودقيقة عن أحوال مخيمات لبنان. والأسوأ أن البحث الاجتماعي والسياساتي يقسّم فلسطين ويتناولها باستسلام لما يفرضه الاحتلال، ويتعامل مع الضفة مثلا ككيان منفصل عن المجتمع الفلسطيني برمته ويعيد إنتاج التجزئة والتفتيت. شح في المعلومات ولا نعرف من القضية إلا ما تنقله وسائل الإعلام المشغولة دوما، والتي لا بد أن نعرف جيدا أن أجندتها ليست أجندتنا.

مع تفكيك منظمة التحرير وتحويلها لشعار أجوف لتهديد الخصوم السياسيين، وغياب جهد واسع لتحديد أوضاع وأحوال القضية الفلسطينية والفلسطينيين اليوم، من الواضح أن الانقسام سيظل وسيلة لحفاظ كل من المنقسمين على مكاسبهم ومواقعهم، وستظل الحراكات الشبابية أصوات في برية موحشة وبإمكانيات معدومة، وسيلجأ اللاجئ الفلسطيني مرات ومرات حتى يبتلعه البحر، وسيتوسع الاستيطان وستستمر المفاوضات كما يراد لها، حتى الأبد، والطريف المحزن أن القادة السياسيين ينظرون إلى المحيط العربي وينتظرون أن تضح خريطته حتى يقدموا على خطوات ومبادرات، من كانوا عامل تحريك لكل هذا السواد العربي ينتظرون أن تهدأ أحواله وأن تضح خريطته، و"إسرائيل" لا تنتظر وتشكل واقعا جديدا على مرآى الجديد ولا يخيفها أي كان ولا يمسّها أي كان. نحن لا نعرف قضيتنا، لأننا استسلمنا لما تنقله شاشات التلفزة وما يخبرنا به السياسيون، وحين تشيح الكاميرات عنا وعنهم نكتشف فداحة الأمر.