شبكة قدس الإخبارية

المقاومة بالجوع: في تعطيل عمل السجن (1)

حمزة أسعد
ينطلق فوكو في تحليله للسلطة لا من كينونتها المعقولية، أو ضروراتها الداخلية، وإنما من حيث انعكاساتها على المجتمع التي تتخذ طابعاً مقاوماً ضد القهر والقمع والتطويع. فالسلطة، حسب فوكو، تقنيات ضبط ووسائل عقابية للأفراد في المجتمع بحيث "يصبح تحليل الطرق العقابية ليس مجرد نتائج لقواعد حقوقية، أو دلالات على بنيات اجتماعية، بل تقنيات لها خصوصياتها ضمن حقل وسائل الحكم الأخرى، أن تستمّد من العقوبات رؤية لبعد التكتيك السياسي". انطلاقاً من هذا، تتجسد السلطة، حسب المنظور الفوكوي، في احتكار ممارسة العنف بعد شرعنته؛ وبالتالي احتكار تصنيف الأفراد في المجتمع إلى طبيعين/ لاطبيعين، خيّرين/ أشرار، صالحين/ مجرمين، وهي الأصناف التي يعيد المجتمع إنتاجها بفعل تجذر الخطاب السياسي للسلطة فيه. في هذا السياق، يتجلى السجن كأحد أبرز الأدوات العقابية/ التأديبية بيد السلطة السياسية بغية علاج الأفراد "المرضى" اجتماعيا وتقويمهم. يقارب فلم "هنجر/ جوع" السجن كفضاء تأديبي عقابي للأفراد المصنفين كمجرمين، حيث تدور جُلّ مشاهده داخل أروقة سجن مايز في إيرلندا الشمالية عام 1980/ 1981 كاشفا النقاب عن تبعات القلاقل السياسية آنذاك بخصوص مطالبة الجمهوريين الإيرلنديين الإنفصال عن حكم بريطانيا والإستقلال عنها. يركز المخرج، ستيف ماكويين، على اليات العقاب والضبط في السجن أكثر من تركيزه على الحدث السياسي؛ وذلك بتتبع قصة الجمهوري الرافض بوبي ساندز ورفيقه غالين. يكشف لنا مشهد بوبي وهو على فراش الموت، إثر انقطاعه عن الطعام والشراب لمدة 66 يوما، غيابه في مشهد تطفو على سطحه ذكريات الطفولة التي عاشها في بلفاست. هنا، تنكشف المفارقة رمزيا، مفارقة رؤية بوبي كمجرم ضد السلطة وفق عين السلطة ذاتها، ورؤيته في المشهد المذكور كمدافع عن الحكاية، وكمرافع عن أحقية وجودها واستمرارها أمام خطاب سياسي حقوقي أراد نزعها من ذاكرته وسلخه بالتالي عن أرضه عبر تشكيله ذاتا في رواية جديدة قدمتها له السلطة فرفضها. تدور معظم أحداث الفلم داخل أروقة سجن مايز، وهو عبارة عن غرف إنفرادية محكمة الإغلاق و غير مزودة بمرافق، يفصلها ممر طويل يتخلله بوابات حديدية برجال أمن. يقوم بناء السجن على مبدأ العزل، "عزل المحكوم عن العالم الخارجي، وعن كل ما تسبب به العالم الخارجي، وعن كل ما تسبب بالمخالفة، وعن أشكال التواطؤ التي سهلتها. عزل الموقوفين بعضهم عن بعض. بحيث إن العقوبة- ليس فقط- يجب أن تكون فردية، بل عاملة على التفريد." يحرص المخرج على إبراز التشابك بين النصي، بما هو تشريع قانوني وحقوقي مكتوب، والمرئي، بما هو هندسة فضائية لبنيان السجن تشتغل في إنتاج الجسد الإنضباطي. يظهر هذا الإنشباك في اكثر من مشهد بدءا من مشهد خروج ضابط الشرطة حين يركب سيارته صباحا متجها نحو وظيفته في السجن حيث نشرة الأخبار تنبأ عن الإحتجاج والمطالبة السياسية، كما وتخبر عن الذين "أدينوا بالجرائم البشعة لما يدعونه دوافع سياسية وهذا ما لن تقبل به الحكومة"، إلى مشهد غرفة المغاسل حيث الصورة ثابتة وصوت القاضية يؤسس بثقة لأن "ليس هناك شيء اسمه قتل سياسي، تفجير لدوافع سياسية، أو عنف لأسباب سياسية. هناك فقط قتل إجرامي، تفجير إجرامي، وعنف إجرامي". يتزامن في هذا المشهد صوت القاضية، مع غياب لصورتها، مع صورة جدار السجن من الخارج حيث تتراكم الثلوج. هنا، يرمز المشهد إلى الإنشباك الحاصل بين الخطاب الملفوظ- الحقوقي القانوني من جهة والسياسي من جهة ثانية- عبر تمظهره في صوت الإذاعة والقاضية، مع المرئي المهندس المتمظهر في السجن. يأتي السجن إذا، حسب التحليل الفوكوي، قبل القانون؛ إذ الأخير جاء لينظم الأول بما هو مؤسسة خاصة كما لو أنه سلطة مضافة للدولة والمجتمع. اليات عقاب وضبط الذوات الإجتماعية ينضح الفلم بالمشاهد الرمزية. يتكرر مشهد يد رجل الشرطة المتضررة من فعل الضرب، والتي اعتاد علاجها عبر نقعها لمدة في الماء وتعريضها للبرودة لفترة من الزمن. تشير اليد في المشاهد كلها إلى سلطة القانون وقوته وسيادته وبطشه، فالدولة ورجُلُها يبطشان بيد من حديد. تؤسس هذه الصورة الرمزية العلاقة القائمة في السجن بين كائن استخباراتي وجسد مستباح؛ إذ بدخول الذوات الإجتماعية السجن تصبح مستباحة وعارية حتى من أن تمارس حريتها، كما يتضح من مشهد جلب الجمهوري الإيرلندي غالين إلى السجن حيث تمّ نقله مباشرة من صندوق سيارة المعتقلين إلى أروقة سجن مايز دون كبير مسافة بين البابين؛ ليمثل أمام الضابط العسكري رافضا أن يرتدي زي السجن، بما له من دلالات رمزية تشير إلى الإجرام وتمنح السجناء هوية خلقتها لهم السلطة، مطالبا بأن يظل مرتديا ملابسه العادية. حينها، وبصمت، سجّل الضابط في سجل السجين بأنه غير مطابق وأعطي رقما مع تدوين تاريخ دخوله السجن. هنا، في فضاء السجن يتقابل لباس الشرعية (الشرطة) مع لباس اللاشرعية (السجناء) وهو انبناء بصري قائم على خطاب سلطة نصي ملفوظ فصل بين الإثنين وجعل من وظيفة الأول تطويع الثاني وتأديبه ومعاقبته أي (شرعنته). تقوم السلطة الإنضباطية أساسا على استخدام تقنيات تجعل ممن يقع عليهم فعل الإخضاع مرئيين بوضوح من قِبل المفاعييل السلطوية. يكشف الفلم عن البناء الداخلي لسجن مايز، حيث الغرف المعزولة والمحكمة الإغلاق بأبواب حديدية متينة فيها فتحة صغيرة تتيح للضابط أن يراقب من خلالها ما بداخل الغرفة متى يشاء. ولكل غرفة شباك صغير محصن ومرتفع يتيح للضوء والهواء العبور داخلها. تتكشف بعض الاليات في الفلم كما يلي: اولا: العزل، عزل المساجين بعضهم عن بعض وعن العالم الخارجي. يجري توقيف بوبي ورفيقه غالين في غرفة منعزلة دون مرافق سوى غطاء النوم. فالعزلة، حسب التحليل الفوكوي، "يجب أن تكون أداة إيجيابية من أجل الإصلاح، فعن طريق التفكير الذي تبعثه، والندم الذي لا يمكن إلا أن يتولد: ما أن يُقذف بالمحكوم عليه في العزلة حتى يشرع في التفكير. فما أن يوضع وحده أمام جريمته حتى يتعلم كيف يكرهها، وإذا كانت نفسه لم تسأم من الشر بعد، فإن يأتي في العزلة ليجتاحها. تؤمن العزلة المجالسة بين الموقوف والسلطة التي تمارس عليه". ثانيا: إخضاع الأجساد لنمط موحد من اللباس يحمل دلالات تأديبية تأنيبية تشتغل على اقناع الموقوفين بذنبهم. وهذا ما رفضه السجناء في سجن مايز. ثالثا: تنظيم جلسات وعظية دينية تشتغل على تطويع النفوس. تتبدى هذه الآلية في المشهد دقيقة 31 حيث يجمع المساجين في حضرة قس يخطب فيهم عن الصالحين وتخليص الإله لهم من الشر والرجس. رابعا: إخضاع الأجساد لعمليات الضرب الشديد والقسوة والإيلام. يظهر ذلك في مشاهد عديدة على مدار الفلم؛ فقد كانت ردة فعل السلطة على العصيان في سجن مايز عنيفة حيث سُحب المساجين من غرفهم فردا فردا، يتم اقتيادهم بالضرب نحو غرفة الغسيل لغسلهم وقص شعورهم ولحاهم. وفي مشهد آخر، يتم الإستعانة بالقوات الخاصة لضبط الشغب الذي يحصل في السجن، ويتعرض جراء ذلك المساجين للضرب على شتى أنحاء أجسادهم العارية. يرى فوكو ذلك في سياق تحول العقوبة من مشاهد علنية إلى إخفاء للتعذيب فى السجون، ومن ثم تحويل عقوبة الاعتراف العلني ومشهد التعذيب إلى نوع من التقصّي.

45

تتوالى مشاهد الفلم بشكل صامت، حيث الحوارات قليلة سوى في الحوار الذي يدور ولمدة تقارب الـ20 دقيقة بين بوبي والقس داخل السجن في قاعة الطعام، وهو حوار يكشف عن تجذر خطاب السلطة في المؤسسة الدينية الممثلة بالقس، والتي ترى الأشياء بمادياتها لا بروحانياتها، وهذه مفارقة كشفها بوبي، وتعمد سبيل المداهنة مع القوة باسم الواقعية، يشدنا الحوار في المشهد الطويل هذا أكثر من التصوير والذي ظل ثابتا حتى آخر دقائق منه. ينتهي المشهد بتركيز الصورة وتكثيفها على رماد السجائر التي دخنها بوبي الراديكالي في قراره، فالسجائر المقدمة من القس تعبير رمزي عن الرفاهية التي تنتهي إلى رماد (رمز التحول) أما الحكاية التي يدافع عنها بوبي تظل (رمز الديمومة). تغيب الموسيقى في الفلم سوى في مشهدٍ واحدٍ منه، مشهد بوبي ساندز يتذكر الطفولة وهو على فراش الموت، متيحا المجال لنقل الأصوات، اصوات صرير البوابات في السجن، ومحرك السيارة، وأقدام الشرطة دون أي مؤثرات. يظل السجن وتظل ادواته تعامل الموقوفين كأجساد عارية من كل حقوق، حتى في مماتها. يختتم الفلم بمشهد خروج جثة بوبي من السجن بطريقة توحي بإنه من مخلفات التأديب والضبط، إذ أن ما وصل اليه بوبي نتيجة طبيعية ومنطقية لعدم خضوعه للتطويع، فظل جسدا عاريا لا معنى فيه.