شبكة قدس الإخبارية

أهلاً بكم في فلسطين.. بعد التحرير

بدور حسن

*نقلا عن موقع حبر.

لم يتفاجأ أحد حين أعلنت فرقة الفانك-روك الأردنية أوتوستراد نيّتها إقامة حفلات في فلسطين وهضبة الجولان المحتلتين بين الخامس والثاني عشر من أكتوبر. جولة أوتوستراد -التي تشمل عروضًا في رام الله والقدس ويافا والناصرة وحيفا والجولان- لن تكون الزيارة الأولى للفرقة إلى فلسطين المحتلة، ففي ديسمبر الماضي غنّت الفرقة في الناصرة المحتلة، متجاهلة بالكامل مطالبات فلسطينية بإلغاء الحفلة. كثير من الفلسطينيين والفلسطينيات داخل الخط الأخضر يعدّون زيارات كهذه تطبيعًا، كون دخول الأراضي المحتلة عام 1948 يتطلب إصدار تأشيرة من سفارة الاحتلال الإسرائيلي. ورغم أن جولة أوتوستراد لم تكن مستغرَبة على الإطلاق، إلا أنها تعيد إثارة النقاش حول زيارات الفنّانين والفنّانات العرب إلى فلسطين المحتلة.

لكن قبل تفنيد الحجج التي يستخدمها هؤلاء الفنانون وداعموهم لتبرير العروض في فلسطين المحتلة، يجب توضيح ثلاث نقاط هامة:

أولًا: هذه المقالة تناقش حصرًا زيارات الفنانين العرب غير الفلسطينيين إلى فلسطين. فللفنانين والمثقفين من أصول فلسطينية كما لكل لاجيء ولاجئة فلسطينيّة كامل الحق في دخول فلسطين بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك عبر تأشيرة دخول إسرائيلية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال مساواة زيارة لاجيء فلسطيني أو من ينحدر من أصله بزيارة عربي غير فلسطيني.

على هؤلاء الفنانين طيبي النوايا المقتنعين بأن زيارة الضفة تختلف عن زيارة أراضي 48 أن يعوا أن وجودهم في الضفة لم يكن ممكنًا سوى بموافقة "إسرائيل" التامة.

ثانيًا: لا فرق بين إقامة العروض في الضفة الغربية المحتلة وإقامتها في فلسطين 48، وكون دخول الأولى يتطلب تصريحًا فحسب بينما يتطلب دخول الثانية تأشيرة ليست سوى مسألة تقنية. فمن المستحيل دخول الضفة الغربية المحتلة دون موافقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي التي ترفض بصورة ممنهجة دخول اللاجئين الفلسطينيين إلى الضفة، بل وتفرض عليهم منعًا طويل الأمد.

علاوة على ذلك، فإن زيارات الفنانين العرب تعطي انطباعًا زائفًا بأن الضفة الغربية تقع تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة وتروج لأكذوبة نجاح السلطة الفلسطينية في تحقيق الحكم الذاتي والسيادة الفلسطينيّة، وذلك أبعد ما يكون عن الحقيقة. على هؤلاء الفنانين طيبي النوايا المقتنعين بأن زيارة الضفة تختلف عن زيارة أراضي 48 أن يعوا أن وجودهم في الضفة لم يكن ممكنًا سوى بموافقة "إسرائيل" التامة، وأن زياراتهم -دون علمهم- تعزز الأمر الواقع وتخدم أسطورة الاستقلال التي تحاول "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية نشرها.

في المقابل، يستطيع العرب دخول غزة عبر معبر رفح -على الأقل، إن لم يكن مغلقًا كما هو الحال هذه الأيام- دون الحاجة لتصريح إسرائيلي، وليس لـ"إسرائيل" تحكم ظاهر أو مباشر بمن يمكنه الدخول من خلال المعبر. قد يرى البعض في قبول دخول الفنانين إلى غزة ورفض دخولهم إلى الضفة وأراضي 48 ترسيخًا للانقسام الفلسطيني، إلا أن نقاش حالة غزة بشكل منفصل عن أراضٍ فلسطينية أخرى إنما ينبع من حقيقة أن الواقع في هذه المناطق ليس متشابهًا، لذا فلا يمكن مساواة زيارة غزة بزيارة باقي فلسطين. هذا ليس إنكارًا لحقيقة أن غزة لا تزال رازحة تحت الحصار الإسرائيلي، بل أن الحاجة لكسر هذا الحصار الخانق هي بالضبط ما يدعو لتشجيع زيارة الفنانين العرب إلى غزة.

ثالثًا: الاحتجاجات الفلسطينية لا تستهدف أوتوستراد وحدها، بل هي حملة ضد أي شكل من أشكال التطبيع، الثقافي خصوصًا، بهدف دفع كل الفنانين العرب للعدول عن زيارة فلسطين المحتلة. فجولة أوتوستراد المقررة ستختتم صيفًا عجّ بحفلات ومهرجانات وعروض لفنانين عرب في فلسطين. مقلق بشدة هذا التزايد في أعداد الفنانين الذين يدخلون فلسطين عبر تأشيرة أو تصريح إسرائيليين متخلّفين عن واجبهم في مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي، بعيدًا عن النوايا، كما هو مقلق أن زياراتهم تزداد قبولًا وروتينية.

من غير المعقول أن تُغلق حيفا والناصرة في وجه فلسطينيي غزة والضفة الغربية بينما تفتح في وجه فرقة عربية. من غير المعقول أن تُمنع معلمة فلسطينية-أميركية من دخول الضفة الغربية للتدريس فيها في حين تصبح زيارة الضفة روتينًا للكثير من الفنانين العرب. ومن غير المعقول أيضًا أن تُحرم سورية هُجّرت من الجولان المحتل من العودة إلى أرضها بينما تغني فرقة عربية هناك بلا قيود. ضرب من الجهل والسذاجة أن يتم إغفال هذه المفارقة والإصرار على تلك الزيارات صائبة أخلاقيًا.

يصر الفنانون العرب الذين يقررون إقامة الحفلات في فلسطين على أن هدفهم منها هو التواصل مع الداخل الفلسطيني. لنفترض جدلًا أن تلك هي نواياهم الصادقة حقًا، هل يحقق الغناء في فلسطين هذا الهدف فعلًا؟ الجواب بالتأكيد لا.

هذه الفرق من أكثرها نخبويةً وجمهورهم من أكثر الفلسطينيين برجوازية، ومن يقدر ماديًا على حضور عشرات الحفلات كل صيف يقدر حتمًا على السفر إلى الأردن لحضور حفلات أوتوستراد أو غيرها من الفرق العربية في عمان. معظم الفرق التي تأتي إلى فلسطين نخبوية ولها جمهور انتقائي محدد، وكما تشدد الناشطة السياسية ثمينة الحصري فليس ذنب الفرق أنها نخبويّة وأن جمهورها نخبويّ، بالطبع، إلا أن المفارقة تكمن في أن العديد من المغنيين الشعبويين العرب ممن يملكون جمهورًا أوسع بكثير يرفضون الدخول عبر تأشيرة إسرائيلية بينما يكسر فنانون يُفترض أن يكونوا أكثر تسيّسًا المقاطعة ويصمّون آذانهم عن نداءات الفلسطينيين.

لا تدعي هذه المقالة أن هناك إجماعًا فلسطينيًا على مسألة التطبيع، فقد خرجت بالفعل أصوات لدعم عروض الفنانين العرب ليس فقط في الضفة الغربية بل في فلسطين 48 والجولان كذلك، وقد خلق هذا الاختلاف بين الفلسطينيين نقاشًا نشطًا. وبينما حسم كثير منّا رفضه هذه الزيارات منذ زمن، هناك من لا يرى فيها تطبيعًا.

هؤلاء أيضًا، يبررون موقفهم وأمورًا أخرى بالحاجة للتواصل مع محيطنا العربي وإنهاء عزلتنا، وفي هذا التبرير عدة إشكاليات. فالفلسطينيون في فلسطين ليسوا بحاجة أوتوستراد أو أي فرقة عربية في فلسطين لتحقيق التواصل مع محيطنا العربي، فهناك طرق أخرى لا حصر لها للارتباط بالعرب خارج فلسطين دون التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. تجاوز الفجوات وتفكيك الحواجز التي بنتها "إسرائيل" بيننا وبين العالم العربي لا يتم عبر الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي وتجميله وإضفاء الشرعيّة عليه.

ومجددًا، معظم أولئك الذين يستخدمون حجة “التواصل” ينتمون إلى شريحة من الفلسطينيين تستطيع تحمل تكلفة السفر لحضور حفلة. هذا الوضع ليس مثاليًا بالطبع، ففي أي بلد عادي، لا يصح اعتبار التمتع بالموسيقا والفن والثقافة ترفًا. لكننا لا نعيش في بلد عادي. نحن نعيش تحت الاحتلال، وغايتنا هي إنهاء الاحتلال لا تحسينه أو جعله احتلالًا بخمس نجوم. ورغم أن البعض يستصعب الاعتراف بذلك، إلا أنه من السخافة والبذخ بمكان أن نتذمر من عجزنا عن حضور حفل فرقة عربية في الناصرة بينما يعجز فلسطيني في الخليل أو غور الأردن مثلًا عن دخول أرضه لأن إسرائيل أعلنتها منطقة عسكرية مغلقة.

فكرة نهج المقاومة كثقافة، كما تطرح الناشطة الفلسطينية بيسان رمضان، استبدلت بفكرة “المقاومة الثقافية” التي ليست مقاومة بقدر ما هي تسويق ومكسب لمتعهّدي الحفلات. 

حجة أخرى تستعملها الفرق التي تزور فلسطين وداعموها بكثرة هي أن هذه الزيارات شكل من أشكال المقاومة. للأسف، لا تُردّ هذه الزيارات للمقاومة بقدر ما تُرد للقوة المتنامية لثقافة الاستهلاك وصناعة الترفيه والمهرجانات. فكرة نهج المقاومة كثقافة، كما تطرح الناشطة الفلسطينية بيسان رمضان، استبدلت بفكرة “المقاومة الثقافية” التي ليست مقاومة بقدر ما هي تسويق ومكسب لمتعهّدي الحفلات الأغنياء الذين ينظمون زيارات هذه الفرق. الطريق إلى الجحيم يعبّد بالنوايا الحسنة وهذا بالضبط ما يفعله الفنانون العرب طيبو النوايا بإقامتهم عروضًا في فلسطين المحتلة.

في ضوء ما سبق، أصبحت إعادة تعريف التطبيع ضرورة. اللجنة الوطنية لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) لا تعد حفلات الفنانين العرب في الضفة الغربية تطبيعًا، لكن اللجنة يجب ألا تكون الجهة الوحيدة المخولة بوضع المعايير التي تحدد التطبيع. على الشباب الفلسطيني أن يمسك بزمام هذه المسألة ليضع تعريفًا صارمًا وواضحًا للتطبيع، يحد من أي انزلاقات نحوه. لقد مر زمن كانت فيه زيارة فنان عربي للضفة الغربية أمرًا غير مقبول. اليوم، أصبحت هذه الزيارات اعتيادية، وسرعان ما تصبح زيارات فلسطين 48 مثلها، وبهذا التسارع، يمكننا بسهولة أن نتوقع الوصول إلى تبرير إقامة حفلات في تل أبيب. هذا منزلق يجب أن يخشاه حتى الفلسطينيون ممن لا يعارضون إقامة زيارة الفنانين العرب من حيث المبدأ.

من الواجب الإشارة إلى أن اعتراضنا موجه لأي شكل من أشكال التطبيع، ليس الثقافي فحسب. والسياحة الدينية هي تطبيع بالقدر ذاته، ويجب رفضها بالمطلق.

أخيرًا، كفلسطينية من الناصرة تقيم في القدس، أرحب بكل الفنانين والفنانات العرب في أرضنا لكن بعد أن تتحرر فلسطين بأكملها وبعد أن تزول "إسرائيل" وينال اللاجئون الفلسطينيون حق العودة. وإذا كان الفنانون العرب صادقين حقًا في دعمهم للنضال الفلسطيني من أجل الحرية والكرامة، فعليهم أن يحترموا دعوتنا لهم بالامتناع عن زيارة فلسطين حتى التحرير.