لم أكُنْ يوماً مفاوضاً للسلام، ولكنني كأحد أولئك الأفراد الذين سيتأثرون جوهرياً بما ستفضي إليه محادثات السلام الفلسطينية-الإسرائيلية؛ فإنني أشعر بواجبي بضرورة اقتراح بعض القواعد التفاوضية الأساسية للمفاوضين الفلسطينيين. إن لم نفعل ونقترح وإن بقينا صامتين فسُيفرض علينا، نحنُ شباب فلسطين، مستقبل مُظلم ومُعتم.
أي قرارٍ سيؤُخذ اليوم في المحادثات الجارية بين المفاوضين الفلسطينيين والإسرائيليين سيكون غداً واقعاً على الأرض. ولذلك فالشباب الفلسطيني لا يرغب أبداً بالعيش مجدداً بعذابات العقود التي سببها اتفاق أوسلو المشؤوم. وبالتالي فالمفاوض الفلسطيني سيُحسن صنيعاً إن أصغى وقرأ وفكّر بالقواعد التفاوضية الأربعة الأساسية أدناه. بالطبع فإن أولئك المفاوضين لا يمثلون ولا بأي شكلٍ من الأشكال الأحد عشر مليون فلسطيني في الوطن (فلسطين التاريخية) والشتات ومخيمات اللجوء.
1. فاوضْ وأنت قويّ
تعتمد السلطة الفلسطينية على سلطات الاحتلال الاسرائيلية والمجتمع الدولي من أجل استمراريتها وذلك بموجب بُنيتها وتصميمها حسب اتفاقيات أوسلو. وقد تمكنت هذه السلطة من خلق طبقة جديدة من المنتفعين من وجودها، ولكنها أضحت عبئاً ثقيلاً على باقي الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة، ولم تتمكن هذه السلطة من إكمال المسيرة الفلسطينية نحو الحرية والاستقلال وتقرير المصير. فعدا عن أجهزتها الأمنية المدعومة والمدربة أمريكياً؛ فالسلطة الفلسطينية تمر في إحدى أحلك وأضعف مراحلها. فهذه السلطة تعاني من انقسام مستدام ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة وأزمة مالية مزمنة وأزمة شرعية أيضاً. وقد همّشت السلطة هذه منظمة التحرير الفلسطينية وجعلتها شكلية لا أكثر ولا أقل. فالمواطنون الفلسطينيون يعبرون وبازدياد مضطرد عن سخطٍ وغضبٍ شديدين حيال السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية وسياستهما وخياراتهما. وبالتالي فإن الشروع بمفاوضاتٍ في ظل حالة الوهن والضعف الداخلي والمحلي يشكل أسوأ نقطة انطلاق من أجل تلبية وإعمال الحقوق الفلسطينية.
2. زاوجْ ما بين المفاوضات والقوة
إن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ليس صراعاً ما بين قوتين متماثلتين، وإنما هو صراعٌ ما بين مستعمِرٍ ومستعمَرْ. وبالتالي فإن نموذج أوسلو للمفاوضات ومع كل اختلالات ميزان القوى ما بين "إسرائيل" والفلسطينيين، سيقود حتماً إلى نتائج أكثر كارثية واستيلاءٍ مستمر على المقدرات والممتلكات الفلسطينية. فمن الواجب دمج ومزاوجة المفاوضات مع نماذج أخرى للقوة كحملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على اسرائيل، وحراك الشباب وحركاتهم ومبادراتهم في الأرض المحتلة، وبناء اقتصادٍ مقاومٍ يعتمد على الزراعة من أجل استعادة الأرض والحرية، وتعزيز حملات التضامن الدولي، وتفعيل الدبلوماسية الدولية والانضمام لمحكمة الجنايات الدولية إضافة إلى أشكال أخرى للمقاومة. فالأعوام العشرين الأخيرة من عمر الشعب الفلسطيني أوصلتهم إلى قناعةٍ مطلقةٍ بعدم جدوى المفاوضات ولخطورة المقامرة بأحلامهم وأهدافهم من خلال تبني نهج "الحياة مفاوضات". فالصمود في وجه الاحتلال الاسرائيلي ومقاومته كفيلان بتحقيق الأهداف والطموحات الفلسطينية، وليست المفاوضات العبثية البائسة.
فعلى المفاوضين الفلسطينيين وقف تعليق كافة آمالهم وأحلامهم على الإدارة الأمريكية؛ فهل يَعقل بعد عشرين عاماً من الخبرة أن لا يصل المفاوضون الفلسطينيون لحقيقة ضرورة إنهاء اعتمادهم على وسيط منحاز والذي قد عيّن للتو أحد أهم مناصري الصهيونية والداعمين لها، مارتين ايندك، كمبعوث للعملية السلمية؟ كذلك فإن الضغط الأمريكي للوصول إلى تسويةٍ معينة أو لأرضية تسويةٍ للصراع خلال تسعة شهور من الزمن، سيمنع المفاوضين الفلسطينيين من التفكير الاستراتيجي في الحياة المستقبلية للأجيال القادمة. على الأقل فقد حان الوقت لإنهاء السيطرة والرعاية الأمريكية المطلقة للعملية السلمية، وقد حان الوقت لإدماج عناصر دولية أخرى.
3. المساعدات الدولية لا تجدي نفعاً في ظل الاحتلال
لقد استثمر مجتمع المانحين حوالي ثلاثة وعشرين مليار دولار أمريكي خلال السنوات العشرين الماضية في وصفات اقتصادية فاشلة وغير فعّالة من أجل شراء السلام وفرضه في الأرض الفلسطينية المحتلة. ولكنهم نجحوا في تدمير الاقتصاد الفلسطيني وزيادة تشوهاته البنيوية وزيادة اعتماديته على أموال المانحين، وقد ساهموا بسخاءٍ بدعم وإدامة المشروع الاستعماري الاستيطاني الاسرائيلي في الأرض الفلسطينية. وعلى الرغم من هذا الفشل الذريع وخاصة في ظل الفترة "الفياضية"؛ فإن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري قد وعد السلطة الفلسطينية بأربع مليارات دولار أمريكية كمساعدات دولية للفلسطينيين من أجل مضاعفة الناتج المحلي الاجمالي للضفة الغربية وقطاع غزة وتخفيض معدلات البطالة من حوالي 21% إلى 8% خلال ثلاث سنوات. كل هذا قد بني مرة أخرى على نفس الافتراض والأساس: أعطهم المزيد من المال، إجعلهم بأحسن حال اقتصادي تحت الاحتلال، وخذ منهم التنازل السياسي.
4. السلام بحاجة إلى تفويض جماهيري
على المفاوضين الفلسطينيين أن يخضعوا للمحاسبة والمراقبة والمسائلة الشعبية. فأولئك المفاوضين لا يملكون أي تفويض شعبي ويعيشون بعيدين كل البعد عن عذابات وواقع الحياة اليومية للفلسطينيين؛ فهم بالأحرى يعيشون في ظل احتلال خمسة نجوم. وهم يقومون بأخذ قرارات نيابة عن الشعب الفلسطيني وعن الشباب الفلسطيني على وجه الخصوص من دون احترام وجهات نظرهم أو الأخذ بها. بل على العكس، فهم يقومون وبشكل فعّال وفعلي بقمع الأصوات المعارضة والتي تقف ضد المفاوضات بإطارها المعمول به منذ اوسلو، ويتم القمع في العديد من المرات بشكل عنفي وسلطوي وعدواني.
ما ينساه المفاوضون الفلسطينيون أن نجاح محادثات السلام هو أمرٌ مرهونٌ بالتفويض الجماهيري والموافقة الشعبية. وبالتالي فمن الضروري بناء جسم وطني شرعي يمثل كافة الفلسطينيين بكافة أطيافهم وبكل أماكن تواجدهم خارج وداخل الوطن، ويعمل هذا الجسم على تحقيق مصالح الفلسطينيين للعيش بكرامة على الأرض الفلسطينية وإعمال حق تقرير المصير. إن تم غير ذلك، فسيكون "السلام" ما هو إلا شكلٌ آخر من أشكال الكولونيالية والاستعمار المغلّف بالعصرية.
إن القواعد الأربعة الأساسية هذه هي قواعد بسيطة للغاية ولكنها ضرورية. بالفعل فإن المفاوضات هي من أجل حل "إشكالياتٍ" حدثت في الماضي ولكنها تفضي أيضاً لتبعات حالية ومستقبلية. وبذا فإن الشباب الفلسطيني غير مضطر أو راغب بحمل ثقلٍ جديد بسبب أخطاء تفاوضية كارثية تمعن "قيادته" بارتكابها. مَنْ فَشِل خلال العشرين سنة الماضية فشلاً ذريعاً بتحقيق الأهداف الفلسطينية وقد كانت الظروف على أرض الواقع "أسهل" من اليوم، لا يستطيع منحنا مستقبلاً أفضل.
الرسالة للمفاوض الفلسطيني واضحة وقصيرة: المفاوضات هي أيضاً من أجل المستقبل وليست فقط من أجل عنونة الظلم التاريخي الذي تعرض له الشعب الفلسطيني. فهل تستطيعون حمل هذا العبء؟ العشرون سنة الماضية تجيب بالنفي.
* نشرت هذه المقالة سابقاً باللغة الانجليزية على موقع ال The Huffington Post