شبكة قدس الإخبارية

الآدمية إذ تغادر أهلها

٢١٣

 

عبد اللطيف وليد

لا أزلت أعتقد منذ صغري بأن أجلّ وأثمن ما أنعم به الله –عز وجل- على الإنسان "الروح"، ولا زلت أعتقد جازماً بأن قوام تلك الروح "الكرامة"، ومما لا شك به عندي بأن أهم أداة يمكن أن يمتلكها الإنسان لتحقق له كرامته وسمو روحه "الحريّة".

إنها منظومة متكاملة؛ وليس من الممكن تخيّل واحدة منها دون أخرى، فالإنسان بلا روح يستحيل لكائن ميْت، وهو بلا كرامته يصبح مطيّة للقاصي والداني حيناً، ولمن يدفع أكثر أحياناً أخرى، وملاك ذلك كله والمهيمن عليه "الحريّة"؛ فالإنسان الحر لا يباع ولا يشترى ولا "يُمتَطى".

فمسألة أن تُزهق نفساً بشرية، أو أن تريق دماً آدمياً ليست من السهولة بمكان، لا ديناً ولا عرفاً ولا قانوناً، وليس من فراغ أن يكتب الله جرم الآدميين عن آخرهم على ذلك الإنسان الأول الذي "طوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله"، بل إن الله –جل في علاه- انحدر على الفور بمنزلة ذلك الإنسان لمرتبة "الحيوانية"؛ فاختار أن يرسل له غراباً "ليريه كيف يواري سوءة أخيه" الذي استباح دمه.

إذا ما تفكرنا فيما تقدم أعلاه؛ فإنه بطبيعة الحال سيمكننا تفهم طبيعة الشعارات التي يُنادى بها في دول "الربيع العربي" –كما يطيب للبعض أن يطلق عليها-، لقد كان أول ما صَدَح به المتظاهرون والثائرون على الظالم وظلمه "حريّة"، ومن هنا فإنه من المبرر جداً أن يستطيب الإنسان الموت ويستلذه، ويعتبره شهادة في سبيل الله يوم أن يكون ثمن ذلك حريته التي هي طريقه لآدميته.

ومن هنا أيضاً، يمكننا تفهم نفسية القاتل الذي لا يمانع في أن يفتك بكل تلك الجموع عن آخرها، ومهما كان تعدادها، وسنتفهم جيداً كيف أن خيار القتل بالنسبة له سيكون أهون ألف مرة من منح هؤلاء حريتهم، والتي هي بطبيعة الحال حق أصيل لهم لايمكن لأحد مصادرته أو الهيمنة عليه.

وعليه؛ فإنني أستطع تفهم المشهد أعلاه تماماً في سياق ما تقدم، دونما تبرير للقتلة بالطبع، إنما أتفهمه في سياقه الطبيعي، سياق الصراع الأزلي بين الحق والباطل، صراع الكينونة الآدمية "أكون أولا أكون"، أتفهمه تماماً، غير أني لا أبرره ولا أجيزه، كما أنني أعتقد جازماً بأن ما من إنسان ذو نفس حرة يستطيع تبرير ذلك بحال من الأحوال.

وعلى النقيض، وعلى الطرف الآخر ثمة مشهد يصعب تفهمه أو تبريره، إنها حالة فريدة، حالة جديرة بالدرس والتأمل والتعمق، إنها حالة تلك الروح التي ألفت حياة الرّق، واستطابت طعم العبودية، فهي وإن فُتحت الأبواب من أمامها على مصراعيها فإنك تجدها مصرة على البقاء حبيسة زنزانتها، ترفض مغادرتها، ويكأنه صار فيما بينهما ألفة ولحمة، ولقد صارت مادة العبودية جزءاً أصيلاً ومكوناً رئيساً من مكونات تلك الروح.

إن المتتبع لنشرات الأخبار في الأيام الأخيرة فقط، يستطيع أن يستنبط عشرات الأمثلة على تلك الروح المنسخلة عن آدميتها، وإلاّ: في أي سياق يمكننا تفهم الحالة الشعورية لذلك الذي استطاب أن تُلتَقط له الصور وهو يقبل الحذاء العسكري؟ وفي أي خانة يمكننا تصنيف ذلك الذي أحكم وثاق الحذاء من وفق رأسه وسار به فرحاً في شوارع أم الدنيا وحاراتها؟ وأي مبرر –ياترى- لذلك الذي جعل من العسكر إلهًا "لايضل ولا ينسى" فاندفع يبرر له ويدافع عنه في كل منبر أمكنه الوصل إليه؟!.

"اقتل.. لاترحم منهم أحد"، "الله يخلي الجيش"، "إحنا خدامين الجيش"، "أيوة كدا من زمان"، "أين ملائكة الله لتقاتل معكم"، ...الخ، إنها جزء من قائمة طويلة من رسائل الـ (SMS) التي يتم إرسالها عبر الأشرطة المخصصة لها على بعض القنوات، يضاف إليها قائمة طويلة من التغريدات والتدوينات التي يتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي تحاكي المضمون ذاته، وهنا.. حق لنا جميعاً أن نسأل عن مستوى آدمية هؤلاء الذين –وعلى ما يبدو- ترتفع منسوبية النشوة لديهم بمجرد رؤية الدماء المراقة والجثث المتفحمة.

إنه مشهد يصعب تفسيره وتأويله، تصعب دراسته ومتابعته، والأصعب من ذلك كله هو مجرد تخيل فكرة أن هناك إنسان بلا إنسانية، روح بهيمية، كائن حيواني، عقل سليب، أعين لا تبصر وقلوب لا تنبض.. ولربما أمكننا في ظل هذا المشهد أن نجد تفسير عصري لقوله تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل".. ذلك هو الإنسان بلا إنسانية بلا إرادة أو إن شئت فقل: إنه سليب "الحريّة".