شبكة قدس الإخبارية

تبعية النخب: حالات عديدة، ومضمون واحد

٢١٣

 

وسيم أبو فاشة

 في شتاء 2006 اصطحبني صديق مغربيّ من المقيمين المهاجرين إلى بلجيكا لزيارة مدينة لوفن، ولتوفير تكاليف المبيت ذهبنا إلى منزل فتاة تركية تعيش مع صديقها الأفغاني حيث يدرسان في جامعة المدينة المذكورة، وبطبيعة الحال كان الصديق المغربي على علاقة بهما أثناء إقامته في المدينة المذكورة... وكعادة الشرقيين أعدت الفتاة طعاما وفيرا، كفانا جميعا شر البحث عن مطعم رخيص.

 لم التفت كثيرا لحديث الشاب الأفغاني الذي كان يدور حول عالم المال والأعمال، إلا حين عرفت أن والده الثري، شريك لكرزاي في كثير من المشروعات في أوروبا، وأمريكا... وهنا انهلت عليه بعشرات الأسئلة الفضولية، عن بعض التفاصيل الخاصة بأفغانستان، وصولا لطبيعة المشروعات التي نقلها الشريكان تحت عباءة نظام ما بعد طالبان إلى البلد الأفقر والاكثر دمارا في العالم.

 كان حديث الشاب الأفغاني مفصلا بطريقة وضعت من خلالها أصبعي على تجربة حية لكيفية تصنيع القيادات السياسية لدول المحيط، ومن ثم دعم وصولهم لمواقع سياسية رفيعة في دولهم، تكون مهمتهم الرئيسية بناء الكمبرادور المحلي، بفعل علاقاتهم مع البنية الإنتاجية في العالم الصناعي، وما يتطلبه ذلك من ربط المؤسسات السيادية (خاصة الجيش والأمن) بدول المركز.

 وفي ربيع العام نفسه، تعرفتُ إلى شاب عراقي في مطار مدينة دوسلدورف الألمانية، حيث كان كلانا متجها إلى استوكهولم، وفي الوقت الذي سبق إقلاع الطائرة لحين وصولها إلى السويد، تحدثنا أكثر ما يكون عن أوضاع العراق ما بعد الغزو الأمريكي. وأكثر ما شدني إلى وصف الشاب لأوضاع بلاده، أنه بدأ بوصف خلفيته الاجتماعية حيث أنه ينتمي لعائلة شيعية علمانية، بل وأن معظم عائلته سبق أن انتموا للحزب الشيوعي العراقي، وتعرضوا للاعتقال، ففضل غالبيتهم الهروب واللجوء إلى أوروبا.

 وحال انتهى من وصف خلفية عائلته، التفت إلي، قائلا: "لكننا اليوم شيعة، ليس بالمعنى الطائفي، بل السياسي، الشيعة السياسية اليوم هي المرشحة لبناء الطبقة الجديدة في العراق"... قاطعته متسائلا: وماذا تعني بالطبقة الجديدة؟ رد: "ببساطة شديدة، طبقة المال السياسي..."، عدت للسؤال، وما علاقة ذلك بكونكم شيعة؟ رد: "يبدو لي أن المرجعية الدينية قادرة على تبرير مشروع المال السياسي، الدين وحده القادر على تبرير كل شيء، ومراجعنا لا تمانع من هذا الدور، ما دامت قادرة على تحقيق الكثير على صعيد النفوذ من خلال عراق ما بعد الاحتلال".

 أيام قليلة بعد عودتي من استكهولم إلى بروكسل، رافقت عددا من الأصدقاء الأكراد إلى مدينة في الشمال البلجيكي –نسيت اسمها- حيث تم اختيار تلك المدينة لإقامة حفل النيروز (عيد الربيع)، وكان الاحتفال برعاية حزب العمال الكوردستاني، ومعظم الحضور الثلاثة آلاف كانوا ينتمون إلى الحزب المذكور أو سبق لهم أن كانوا قريبين منه. حقيقة، ذكرتني تفاصيل الحفل، ووجوه الناس، وأحاديثهم بأجواء احتفالات منظمة التحرير التي تلت الخروج من بيروت، وسبقت تأسيس السلطة، إذ ثمة تفاؤل بأن شيئا ما يلوح في أفق القضية الكردية، وأن هناك قيادات كردية خاصة تلك المقيمة في أوروبا قد نجحت في فتح خطوط للحوار مع أكثر من دولة أوروبية، فضلا عن الولايات المتحدة. لم أرغب حينها في الدخول في أي من الأحاديث الجانبية، وإفساد فرحهم بعيدهم بأسئلتي الفضولية.

 في المساء وقبل مغادرة المدينة، ذهبنا لتناول الطعام في مطعم يملكه والد أحد الأصدقاء الأكراد، حيث بدا لي أن المطعم راق، ويعكس ثراء مالكه، والذي جاء للتعرف على مجموعة الطلبة الأكراد الذين جاؤا للاحتفال من عدد من المدن، وكنت حينها الوحيد غير الكردي في المجموعة. وقد أصغيت إليه، إذ بدأ الرجل يسرد كيف انتقل في نضاله من كونه عضوا في حزب أيديولوجي إلى ممارسة دور اقتصادي، وكيف أفاده هذا الانتقال في فتح علاقات من رجال أعمال أوروبيين، ومن ثم إسرائيليين، وكيف ساهمت علاقاته تلك بفتح حوارات غير رسمية بين حزب العمال الكوردستاني وأطراف غربية.

 انتهت تلك الليلة، وعدت لغرفتي الصغيرة في شارع نيولان، حيث لم استطع النوم كالعادة، إذ أن أرقا ما لازمني لشهور، لم أستطع معه النوم إلا بعد مرور القطار الأول على سكة الحديد التي تبتعد 30 مترا عن نافذة غرفتي، أي تقريبا الساعة الخامسة والنصف. ليلتها كان الموضوع الذي يجول في رأسي، كيف تفكر وتعمل قيادات المعارضة، ذات الخلفية الاقتصادية، عند احتكاكها بالغرب الرأسمالي، ففي التجارب الثلاثة التي أطلعت عليها (أفغانستان، العراق، تركيا)، ثمة قواسم مشتركة، تبدو معها المبادئ والإيديولوجيا محلا للمساومة.

 وربما الأهم، أن النخب التابعة، والكمبرادور في دول المحيط لم يكن بالمعنى الكامل صنيعة الغرب، بل أن هناك من يعرض نفسه، ويتاجر بقضيته ومبادئه، ليمارس هذا الدور، ففي الحالات الثلاث، كان رجال الأعمال المقيمين في الخارج يرون أن ثمة إمكانية لفتح أسواق جديدة في بلادهم، عبر تمرير مشاريع سياسية ما، وكل ما يحتاجونه حصان طروادة الذي يقوض العلاقات القائمة والتي وجدوا أنفسهم خارجها.

 تشبه هذه التجارب إلى حد كبير تلك العلاقات التي قامت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بين نخب المال والأعمال ورجالات السياسية في السلطة، بل أن هذه العلاقات أنشأت هجين السياسة- المال ليوطد أحدهما الآخر، ولا يتم الأمر ضمن علاقات التبعية الاقتصادية، والارتهان السياسي في الخيار الأمريكي (أو الإسرائيلي) التفاوضي، إلا عبر (مأذون) شرعي صهيوني، يعقد هذا الزواج بين المال والسياسة، وربما كان للمأذون المذكور نصيب الأسد في كل عقد زواج فلسطيني بين المال والسياسة.