ليس الجدار العالي، ولا السياج الممتد حولنا، ما يمنعنا من الدخول الى فلسطين، إنما الجدران النفسية التي بنيناها في أرواحنا، والسياج الذي يحاصر عقولنا، ما يرهبنا ويجعلنا نتردد من الاقتراب منها، فبمجرد دخولك من خلال فتحة في السياج، ومن ثم قفزك من فوق البوابة الصفراء التي تليه، وبعدها تثني جسمك لتُدخله عبر فتحة في الاسلاك الشائكة الممتدة على سفح الجبل.
بمجرد تجاوزك تلك الحواجز الثلاثة، تجاوز كل تخوفاتك ايضاً، وامشِ بهدوء واطمئنان وبلا قلق، فلا أحد خلفك، وتلك الحدود التي تجاوزتها للتو هي مجرد وهم أكثر منها حقيقة، فأنت قادر على كسر قوة الاحتلال وجدرانه الأمنية التي تمنعك من زيارة اقاربك وأصحابك في الجانب الاخر من الجدران والحواجز، وأنت قادر على إسقاط كل نظريات الإحتلال الأمنية والوصول الى أرضك وبيتك ومزرعتك. لا يحتاج ذلك إلا التصدي للخوف الذي يملؤ قلبك.
دخلنا القدس، وتوجهنا بعدها إلى مظاهرة وادي عارة المناهضة لمخطط برافر، كانت أول مرة نشارك فيها في مظاهرة تنظم في الأراضي المحتلة عام 1948، إقتربنا من مكان المظاهرة ورأينا الأعداد الكبيرة من الآليات العسكرية وشرطة وحرس حدود الاحتلال المنتشرين بالقرب من المظاهرة، وفور وصولنا، رأينا وجوه رفاقنا التي اعتدنا لقاءها في الضفة الغربية والخارج، في البداية، كانت وجوهاً مندهشة، وقلقة علينا أكثر منها سعيدة لوجودنا، لقد كانوا سعداء جداً، لكن وجوههم لم تستطع أن تخفي اندهاشها من وجودنا وسطهم، وبالطبع كانت قلقة علينا جداً، فوجودنا في مظاهرة بعد القفز عن تلك الجدران ستكون عواقبه وخيمة جداً إن تم إلقاء القبص علينا.
المواجهة هناك كانت بيننا وبين الإحتلال مباشرة، ولا وجود لوكلائه بيننا، الأعلام الفلسطينية والهتافات والشعارات التي اعتدنا سماعها ورفعها والهتاف بها في كل مكان كانت مختلفة. عند عودتك للبيت بعد تلك المظاهرة قد تكون قلقاً من استدعاء مخابرات الإحتلال، ولكنك لن تكون قلقاً من استدعائهم واستدعاء وكلائهم. من يعاون الاحتلال هناك إسمه خائن، ولا وجود لمصطلحات اخرى تجمل وتشرعن فعله. كل شيء كان مختلفاً تماماً في مظاهرة وادي عارة، والعدو هناك واحد.
بعد المظاهرة، توجهنا إلى حيفا للقاء أصدقائنا، وفور وصولنا ليلاً، وعلى أنغام أغنية "أنا عائد الى حيفا"، رأينا حديقة البهائيين، ليعزلنا جمالها عما حولنا، تلك العزلة لم تتعلق بجمالها فقط، بل برؤيتها لأول مرة، فقد اعتدنا رؤيتها في الصور والوثائقيات لا أكثر، ولم نرى تلك الحديقة بأعيننا من قبل، لكننا كنا نحفظ تاريخها ومعالمها، ونجيد التغني بجمالها جيداً، وقد فعلنا ذلك في الكثير من المعارض التي مثلت فلسطين في الخارج. رؤية تلك الحديقة كانت إشارة الإنتقال إلى العالم الآخر.
كنا نخطط للعودة في اليوم التالي، لكن رفاقنا أصرّوا على بقائنا ورفضوا مغادرتنا السريعة، بل راحوا يناقشوا التخطيط والإعداد الى جولات تجوب أكبر عدد من بلدات فلسطين في أيام قليلة، ورغم عدم جاهزيتنا للبقاء اكثر، لم نكن لنرفض خططهم لزيارة أماكن لم نراها إلا في الصور، خصوصاً أنّ اكتشاف تفاصيلها دوماً كان مرتبطاً بجودة الصور وتحسن تكنولوجيا الكاميرات.
تعرفنا على بيوت وادي الصليب في حيفا، وعرفنا معاناتها مع "عاميدار"، بعد أن ابتسمت عيوننا لرؤية بحرها، وتألمت لرؤية مبني الصاروخ يعربد على مسجد الجرينة. تمشينا في حواري عكا، وسمعنا قصص معاناة بحارتها، وتألمنا لرؤية الخان المصادر، وسعدنا لرؤية وحوش عكا يقفزون من فوق أسوارها.
وفي الطريق الى الناصرة، مررنا بشفاعمرو، لنرى ضريح الشهداء الاربعة الذين قتلهم الجندي الصهيوني "ناتان زادة"، وتوزع دمه بعدها على أهالي شفاعمرو الذين هبّوا للإنتقام لأبنائهم وقتلوه، قصتهم فيها كل معاني العزة والكرامة.
زرنا كنيسة البشارة في الناصرة، وحضرنا تعميد طفل على ترنيمة "كيرياليسون"، وتوجهنا الى المقبرة لنجد قبر عبد الرحيم محمود، قبل أن نغادرها يائسين من إيجاد قبر توفيق زياد. جلسنا في الجليل الأعلى بالقرب من منصة ترى منها قرى جنوب لبنان التي سحقت جنود الإحتلال، وترى الشارع الحدودي الممتد الذي خُطف منه جنوده، ترى الأمل ينبعث من هناك، حاولت تخيل كلام الزوار الصهاينة وأصواتهم العبرية التي كانت حولنا، كانت تتحدث عن انكسارهم وكيف تم إذلالهم، لكن صوتاً عربياً في داخلي عزلني عنهم، وتشفى بهم بابتسامة عريضة.
بحثنا عن إقرث المهجرة، لنسمع اكثر عن نموذج نقي لممارسة العودة، رأينا كنيستها التي ما زالت تتربع على قمة جبل يزينه أهالي إقرث المنتشرين في كل مكان بعد قداسهم، سمعنا حكايتهم من أحد الشباب الذين قرروا العودة منذ سنة. في إقرث تجدد فينا أمل العودة.
وفي طريقنا الى الجولان مررنا من فوق بحيرة طبريا، صورتها كانت جميلة ونقية جداً رغم كل الضباب الذي كان يغطيها. كان لابد لنا من التعريج على صفد، فصفد صارت عنوان العودة بسبب من تخلى عنها وجاهر بذلك، تجولنا بها وتألمنا، لأن معالمها صارت مهودة بالكامل، لا أثر لعربي هناك سوى القليل من بيوتها القديمة الصامدة حتى اليوم، ومأذنة مسجد دفن بالكامل، المئذنة ما زالت واقفة لتخبرنا أنه تم دفن الكثير هناك، ولكن وقوفها وصمودها بجانب شارع دُفن تحته المسجد كان منظراً جارحاً ومهين.
توجهنا بعدها الى نهر بانياس المحاط بالأشجار الكثيفة، لنقضي ساعة ونصف في مياهه ما بين السباحة والتجديف. لعبنا وتراشقنا بالمياه بقسوة حتى تعبنا من الضحك على طريقة الأطفال، نعم كنا أطفالاً في ضحكنا ولعبنا. أشعة الشمس كانت تتسلل من بين الاشجار لتضرب مياه النهر ثم تنعكس على وجوهنا وتغسلها من آلام الدنيا.
على صوت سميح شقير، وأغنية يا زهر الرمان، صعدنا جبال الجولان، ورأينا العملاق جبل الشيخ، وتجولنا في مجدل شمس، ثم توجهنا الى جبل الصيحات، لنرى الحدود الزائفة هناك، "بيني وبين أهلي وناسي رمية حجر"، لا شيء يفرقنا عن باقي الاراضي السورية سوى سياج يشابه السياج الذي اجتزناه للدخول إلى القدس، يوماً ما سنجتاز هذا السياج وسنكمل طريقنا الى سوريا. يشدك في الجولان جمال الصبايا الساحر، وسماع لهجتهن الموسيقية كفيل بتناسيك تذوق تفاح الجولان وكرزها، وهو ما حصل.
في كل المحطات، كنت أكرر وأقول بدهشة "يا إلهي، كم لبثنا؟!"، قلتها بكل نبرات الحزن والفرح، كم لبثنا عن كل هذه التفاصيل؟، من حدّ لنا أحلامنا على مستنقع الضفة الغربية؟، من عزلنا عن تاريخنا؟، من أقنعنا أنّ الحدود الوهمية لا يمكن تجاوزها؟، لماذا استسلمنا؟، كيف فرح الألاف بإعلان دولة لا تشمل هذه الأراضي ولا أهاليها؟!. لقد علّمنا الاحتلال ووكلاؤه كيف نهزم أنفسنا ونعيش مهزومين. لكن ليس بعد هذه الجولة.
ستشعر بغربة في فلسطين، غربة قبيحة جداً، إن لم يكن لك رفاق مثل رفاقنا، فهم من منعوا دمعة الحزن والقهر من النزول أكثر من مرة، كانوا يحدثوننا عن كل المعالم ويحددون مكاننا فيها، تعاملوا معنا وكأننا دائماً بينهم ووسطهم، لم نكن دخلاء، ولم نكن ولم يعتبرونا سياحاً، عززوا وجودنا هناك بالأغاني، وعليها غنينا وصفقنا ورقصنا وضحكنا وتقهقهنا سوياً، ولولا ذلك لما استطعنا الاحساس بذاتنا، وتجاوز كل المنغصات، وسط كل ذلك النشاز الذي كان يحيط بنا. أنا مدين وممتن لكل واحد فيهم، فهم كانوا أجمل ما في هذه الجولة، ولولاهم لعدت محبطاً مقهوراً من غربة الوطن.
عدنا من حيفا الى القدس وصولاً الى رام الله بيقين في داخلنا، أن حيفا ويافا وعكا والناصرة والنقب والجليل ليست بالبعيدة، ولا شيء سيفرقنا عنها بعد اليوم، سأرقص بعرس صديقي حتى الصباح في رمانة البطوف بالقرب من الناصرة، وسأودع صديقتي في حيفا قبل سفرها لاستكمال دراستها، وسنغني في حفل تخرج صديقنا في بيته في الطيبة، وسنسهر في عكا بعد ما يتحسن جوها، وينخفض منسوب الرطوبة العالي فيها، وسأزور صديقي في عيلبون لأشاركه في إحياء أعياد الميلاد، سأهاتف أي صديق في أي وقت لأدعو نفسي لتناول الغداء عنده دون تخطيط مسبق، لن أتردد عن المشاركة في كل النشاطات والفعاليات في كل مكان، سأشاركهم يومياتهم في كل تفاصيلها.
لي مساحة لن أتخلى عنها في كل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وسأضحي من أجل الحفاظ عليها، وسأحارب كل من يحاول ابعادي عنها.