أراد أحد أصدقائي أن يُصارحنا بالكشف عن واحد من أحلامه الصغيره كما وصفه. توقعته يبحث عن وظيفة محترمة بلا أي جهد مباشر مثلاً! أو رحلة حول العالم تنتهي بموته فقط، أو حتى زوجة أجمل من "ماريا شارابوفا"! لكن في الحقيقة صدمني عندما قال أنه يحلم بكل بساطة بدخول السينما! تخيلوا! حلم أحدهم أن يدخل السينما؟ وهو يحمل معه علبة الفوشار الكرتونية المخططة طولاً باللونين الأزرق والأحمر، وبيده الأخرى يحمل زجاجة "صودا" على وشك أن تُنتهك حرمتها؟ هذا هو حلمه البسيط البريء؟ أن يدخل السينما بعد أن حجز تذكرته فيقوم بإدخاله القاعة العامل المسؤول هناك فيمرر له بيد مخفية بقشيشاً بسيطاً كـردِ جميل لا داعيَ له؟ هذا هو حلمه البسيط البريء.
بالحديث عن غزة والسينما كمصدر للمعلومة والتبادل الثقافي، لطالما كانت غزة محور الصراعات وأرض الخلافات وعليها انقسم الحلفاء وتفرّق الأشقاء واتّحد الأعداء، لطالما شغلتني هذه المدينة بكل تعقيداتها وبساطتها. كيف يمكن لهذه المدينة أن تكون على لسان العالم كلّه في وقت ما، بينما لا تعلم عن العالم شيئاً. أحيانا يشعر المرء هنا أن كمية المعلومات التي حصل عليها عبر موقع "جووجل" أكثر إفادة من تلك التي حصّلها وقت دراسته منذ كان في روضته التى لا يذكر منها سوى مقصفها الصغير الذي كان الواحد منا يشتري نصف ما فيه بنصف شيقل فقط، ثم ما يلبث إلا ويلعن كل العوامل التى أدت إلى انقراض هذه العملة الغالية عليه.. ما علينا.
في الغرب، يقتسمون مصادر المعلومات إلى درجات مختلفة دون اهمال واحدة على حساب الأخرى. نرى مصادر المعلومات التقليدية مثل الكتب والمراجع والدوريات وغيرها. ونرى مصدر المعلومات الإلكترونية من خلال شبكة الانترنت، وفيها تفصيل كثير. ثم نأتي لواحدة من أهم طرق الحصول على المعلومة هناك، وهي المصادر السمعية والمرئية، ومثال على ذلك: السينما.
حسنا أسمع أحدكم يقول: وما علاقة هذا الهراء بغزّة؟
إليك عزيزي القارئ.
في حوار صغير مع أحد شباب الطليعة المثقفة في غزة، أخبرني رأيه في الأمر بأن السينما صوت الانسان وانعكاس الحضارات. وهذا تأكيد على أن السينما شاهدٌ على العصر.. وهي أيضاً فن بصري يعتمد أساساً على التكوين في الصورة السينمائية. رأينا في الفترة الأخيرة تزايد عدد الروايات التي تحولت إلى أفلام، لدرجة نسينا بعدها هل كانت الرواية هي سبب نجاح الفيلم ام ان الفيلم زاد من مبيعات الرواية!
أغلبنا يعلم أنه في غزة أغلقت معظم دور السينما وصالات العرض بعد أن اندلاع الانتفاضة الأولى عام 1987 وبروز الفصائل ذات التوجه الإسلامي "حماس والجهاد".
في قطاع غزة وفي مرحلة زمنية ما لم يدركها جيل الشباب الحالي كانت لدينا تسع دور سينما. أتصدقون هذا؟ تسع دور سينما في قطاع غزة وحده انقسمت كالتالي: النصر، عامر، السامر، الجلاء، في مدينة غزة، والخضراء، الحمراء في خانيونس جنوب القطاع، إضافة لثلاث دور عرض أخرى في رفح جنوب القطاع.
يقول عدنان أبو بيض (60 عاماً)، أحد أشهر مُشغلي دور السينما في القطاع، ويعمل الآن في بيع الخضروات: "أفضل فترة كانت تعمل فيها دور السينما في القطاع هي الفترة الممتدة من عام 1965 وحتى عام 1990، وكانت هذه الفترة بمثابة العصر الذهبي لدور العرض والمسارح في قطاع غزة". كان مشغلو السينما في ذلك الوقت يطوفون العالم لجلب الأفلام وعرضها في القطاع.
ولدى قيام السلطة الفلسطينية عام 1994 أعيد افتتاح داري عرض في غزة، لكنهما سرعان ما أغلقتا أبوابهما عام 1996 عند اندلاع مواجهات بين عناصر من حركة حماس والأمن الفلسطيني في أعقاب الأحداث التي شهدها مسجد فلسطين وهي حادثة اشتهرت في غزة وقتل خلالها العشرات.
بعد أحداث غزة التي أدت إلى حكم حماس لقطاع غزة، كان للحكومة في غزة عدة محاولات سينمائية غريبة، قاموا بانتاج ثلاثة أفلام أحدها كان عن الشهيد عماد عقل، الفيلم الذي كان كاتب السيناريو فيه هو القيادي في الحركة محمود الزهار لم يلق الاعجاب والنجاح الكافيين. إخراجيا عانى الفيلم من مشاكل كبيرة. تم عرضه في قاعة مؤتمرات مركز رشاد الشوا الثقافي وسط المدينة نظرا لعدم وجود أماكن عرض. بعدها صرّح أسامة العيسوي وقتها وزير الثقافة في الحكومة التي تديرها حركة حماس قال"لا نمانع" إعادة فتح دور السينما المغلقة في غزة مشيرة في الوقت ذاته إلى نيتها فرض "رقابة" على ما يعرض فيها بما يتناسب مع "عادات وتقاليد المجتمع الفلسطيني".
وقال العيسوي نرحب بإعادة فتح السينما في غزة، فنحن نعتبرها من المرافق الفنية والثقافية الأساسية".
وتابع "الوزارة لم تغلق أبواب السينما، دور السينما أغلقت بسبب الأوضاع السياسية التي مر بها المجتمع إضافة إلى رفض المجتمع لطبيعة الأفلام التي كانت تعرض في حينها ".
على صعيد الانتاج السينمائي نرى تفوّقاً غزّياً كبيراً في مجال الأفلام. وصل قمّته بعد أن وصل الفيلم الذي أخرجه الشابان الفلسطينيان "عرب وطرزان" Condom lead إلى نهائيات مهرجان "كان" حيث نافس على جائزة السعفة الذهبية. لم يحصلا الفيلم عليها لكن المخرجان مصرين على العودة العام القادم لاصطياد الجائزة.
في غزة تجارب عدة سبقت تجربة عرب وطرزان. فتيات أخرجن افلاما وشاركن في مهرجانات عربية. وآخرون أخرجوا أفلاما قصيرة نالت من الشهرة ما تستحق.. فغزة تعتبر بيئة مناسبة للغاية للابداع. فقط تنقصهم الامكانيات.
تخلو غزة الآن تماماً من دور السينما ومن المسارح، حتى فرق العزف الفنية تظهر على استيحاء. "ماذا ينقصنا كي نخوض تجربة السينما؟"،"مستعدون للخضوع للرقابة لكن لما لا نجرب الأمر؟ لماذا نُحرم منه؟". هكذا يتساءل الشاب الغزيّ من حين لآخر بعد أن ذاق مرارة الحصار والانغلاق والانعزال عن العالم. أليس من حق الشباب على وزارة الثقافة أن تمنحهم أقل ما يمكن للشاب الطبيعي أن يحصل عليه في بلد تقّلصت أماكن الترفيه فيه فما بالكم في أماكن التبادل المعرفي والثقافي والحضاري؟ لماذا لا تُقام مهرجانات فيُعاد بها إحياء السينما من خلال عرض أفلام من دول نحتاج أكثر لفهمها، من إيران من أوروبا ومن روسيا وحتى إفريقيا؟
ربما علينا أن نقف قليلاًَ أمام أحد أصغر أحلام الشاب الطبيعي بأن يخوض التجربة ولو لمرة واحدة دون ازعاج أو اتهام أو .. عقاب.
في تخصيص الحديث عن غزة وعن تجربتها المشوهة مع دور السينما قد يطول بنا الكلام ويمتد. لكن الشاهد هنا ان غزة مدينة لطالما أحبت السينما ولطالما ارادت دور السينما التواجد في ساحة المواطن اليومية لكن دوما ما يكون هناك ما يردعها.. بلا مبرر.