دخلت الحرب العدوانية الراهنة في قطاع غزة مرحلة جديدة، سمتها الأولى التوسّع في القتل الجماعي، والتجويع شبه الكامل، والتدمير الشامل. وذلك بعد الفشل المتواصل، طوال أكثر من عشرين شهراً، تحت صمود شعبي، ومقاوم عام، وتحت تفوّق المقاومة، عسكرياً في الاشتباكات الصفرية.
والتفسير لهذا الصمود، وهذا التفوّق، يبدو من حيث الحسابات الأولوية لموازين القوى العسكرية، كأنهما ضربٌ من المعجزة: الجيش الصهيوني، والدعم العسكري الأمريكي، مقابل قوّة مقاومة محاصرة، وتسّلحها متواضع جداً، إذا ما قورن بسلاح الجيش الصهيوني، والقنابل والصواريخ الأمريكية. وأضف مجموعة العوامل العسكرية، المتعلقة بالعديد والتكنولوجيا وغيرها، مما يزيد من قوّة التفسير المعتمد على المعجزة- المعجزات.
على أن تفسيراً مقابلاً يدخل، ولو بداية، ضمن قراءة لموازين القوى العسكرية، كما دور الذكاء، والقدرات القيادية، والذاتية والمعنوية، والإعداد المسبق وغيره، يستطيع أن يكون تفسيراً جادّاً، من النواحي العسكرية والموضوعية، والعلمية والإنسانية، دون أن يمنع التفسير بالمعجزة أو يقمعه.
عندما قرّر الجيش الصهيوني، اقتحام قطاع غزة، والقضاء على المقاومة، عسكرياً، اعتمد على أنه يستطيع من خلال الطيران والدبابات، أن يسيطر عسكرياً على القطاع، ويصل إلى أيّة نقطة فيه. ولكنه فوجئ، بعدم وجود عقدة مقاومة واحدة مكشوفة، ولا استحكاماًَ دفاعياً واحداً، كما هو الحال تقليدياًَ- عسكرياً، في اقتحام المدن، والسيطرة عليها. وذلك في مواجهة سلسلة من الأنفاق السريّة، والتي تغطي القطاع، وتشكل قواعد آمنة للقيادات والقوّات. مما أبطل إل حدّ بعيد التفوّق الجوّي، كما زحف القوات البريّة. وجعل المبادرة في الاشتباكات الصفرية، بيدِ المقاومة.
وهنا يجب أن يضاف التفوّق القيادي العسكري والأمني والسياسي، والإعداد لحرب طويلة الأمد (عدّة أشهر)، فضلاً عن إعداد المقاتل المؤمن الإستشهادي، المتسّم بالذكاء والدهاء، والشجاعة الفائقة، والصبر العظيم في القتال، وشظف العيش.
وقد ترجمت هذه المعادلة، بالنصر العسكري، كما تجلى بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 15/1/2025، كما ترجمت حتى اليوم، بعد اندلاع الحرب الثانية. بل سمحت هذه المعادلة بالصمود في وجه الإبادة البشرية، والتدمير شبه الشامل، وصولاً لحرب التجويع الجماعي الإجرامي، الذي ساد، لثلاثة أشهر عموماً، وبلغ اليوم حدّ الكارثة الإنسانية واحتمالها، بما يدخلها بالمعجزة في الصبر الإيماني، والتحمّل البشري.
ثمة بُعدٌ آخر، صنعته هذه الحرب إلى جانب بُعدها العسكري، وبُعدها الإنساني، في مواجهة حرب الإبادة والتجويع والتدمير. وهو المتعلق بما لحق من سوء سمعة، استراتيجي عالمي بالكيان الصهيوني، باعتباره مجرم إبادة، ومنتهكا للأعراف الإنسانية والأخلاق، والقانون الدولي. وهو الذي أقام كيانه على الظلم والاغتصاب، واللاشرعية الدولية (وارتكاب المجازر المخفية، عدا فضيحة مذبحة دير ياسين 1948). ولعل من أهم علائم ضعف نتنياهو، عزلته الدولية التي ستودي به.
لقد أدّت هذه الجرائم طويلة الأمد، التي ارتكبها نتنياهو، وما زال على مدى عشرين شهراً، إلى تدمير سمعة الكيان الصهيوني، خصوصاً، لدى الرأي العام الغربي، الذي غطاه، واعتمد عليه في ارتكاب جريمة احتلال فلسطين. فعندما تتكرّر خلال الأسبوع الفائت، ظاهرة امتناع فنادق ومطاعم في بعض العواصم الغربية، قبول استضافة زبائن (عائلات إسرائيلية) بسبب حرب الإبادة للأطفال الفلسطينيين، فهذا ما يجب أن يُحسب، خطوات على درب نهاية الكيان الصهيوني، فكل "مكسب" يظن نتنياهو أنه يحققه، في ما يرتكب من جرائم، لا يقارن بما سبّبه من سوء سمعة عالمية للكيان الصهيوني.
ولهذا فعلى نتنياهو اليوم الاختيار بين سقوط وسقوط، فغزة مقبرته لا محالة..