انفض اجتماع المجلس المركزي الفلسطيني، لتوحي مخرجاته للوهلة الأولى بما كان متوقّعًا ومطلوبًا منه، وهو استحداث منصب نائب الرئيس. ولكنّ المدقّق في التعديل الذي جرى على النظام الأساسي لمنظّمة التحرير الفلسطينية (على الرغم من عدم قانونيته، لأن الجهة المخوّلة بتعديل النظام الأساسي للمنظّمة هي المجلس الوطني، الذي أنهى نفسه بنفسه حين فوّض في 2018 صلاحياته كلّها بصورة غير قانونية للمجلس المركزي) سيرى أن التعديل يخوّل الرئيس تعيينَ (بترشيح منه) نائب لرئيس اللجنة التنفيذية وبمصادقة أعضائها، وله أن يكلّفه بمهامّ، وأن يعفيه من منصبه، وأن يقبل استقالته، وهذا لا يحقّق الغرض الذي أراده الضاغطون لاستحداث المنصب، وهو تعيين نائب للرئيس بصلاحيات كاملة يقوم بمقام رئيس السلطة في حياته (أكرّر في حياته)، ويخلفه بعد وفاته. حتى نصّ التعديل لا يضمن تولّي حسين الشيخ رئاسة اللجنة التنفيذية في حال حصول شغور في منصب رئيس المنظّمة، فاللجنة التنفيذية هي المخوّلة بانتخاب رئيسها، ولكنّها غير مخوّلة بانتخاب نائبه.
والشيء بالشيء يذكر، فالمرسوم السابق الذي أصدره الرئيس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، ينصّ على أن يخلفه رئيس المجلس الوطني في رئاسة السلطة، على أن تجرى انتخاباتٌ رئاسية خلال 90 يومًا تُجدّد مرّة فقط، في مخالفة صريحة للقانون الأساسي للسلطة، الذي ينصّ على أن رئيس المجلس التشريعي يحلّ محلّ الرئيس في حال شغور منصبه، على أن تجرى الانتخابات خلال 60 يومًا، كما جرى بعد اغتيال الرئيس ياسر عرفات. وإذا لم تجرِ الانتخابات نتيجة ظروف قاهرة (مثل القائمة حاليًا)، أو إذا كانت (وهذا هو الدافع الحقيقي من وراء المرسوم) هناك خشية من عدم فوز المرشّح الذي تختاره اللجنة المركزية لحركة فتح، خصوصًا إذا ترشّح القائد الفتحاوي، الأسير مروان البرغوثي، في مواجهة المرشّح الرسمي للحركة، فسيتم التذرع بالذريعة ذاتها، التي ألغيت بسببها الانتخابات المقرّرة في العام 2021، وهي عدم السماح بإجراء الانتخابات في القدس.
ما سبق يوضّح أن استحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية لا يأتي في سياق إصلاح حقيقي، الذي يتحقّق من خلال تغيير شامل يطاول الرؤية والمسار والاستراتيجيات وتفعيل المؤسّسات المجمدة فعليًا، وتغيير الأشخاص الذين في معظمهم تقادموا وترهّلوا وفسدوا، وضخّ دماء جديدة وشابة، وتشكيل مجلس وطني جديد يشارك فيه ممثّلون من مختلف تجمّعات الشعب الفلسطيني وكذلك المرأة، من خلال تمثيل حقيقي وفاعل، وليس من خلال استجابة شكلية للضغوط الخارجية، وهو ما أغضب الفلسطينيين ومعظم الفصائل، لأنه لم يحقّق ما يريدونه من إصلاح ووحدة ومشاركة في تقرير مصيرهم، ولن يُرضي الولايات المتحدة والأطراف الإقليمية، التي تطالب منذ فترة بإيجاد سلطة وقيادة فلسطينية جديدة أكثر طواعية للشروط الأميركية والإسرائيلية، وحاولت أن تحقّق ذلك بتكليف شخص لرئاسة الحكومة من خارج المقرّبين والمساعدين للرئيس بصلاحيات كاملة، وتحويل منصب الرئيس منصبًا فخريًا، كما حاولوا مع سلفه، وتحايل عليهم الرئيس عبّاس، وكلّف بعد مراوغة طويلة محمد مصطفى (المقرّب منه) بتشكيل الحكومة، وعزّز خلال الأشهر السابقة سلطته بتغيير معظم قادة الأجهزة الأمنية الجدد، وتعيين (بدلًا منهم) ضبّاط من الحرس الرئاسي الموالين له تمامًا، أي أن الرئيس يركّز في تعزيز نفوذه، ولم يفوّض صلاحياته لأحد غيره، ولم يحسم أمر خليفته لأنه يدرك أن العدّ العكسي لعهده يبدأ مع معرفة من هو خليفته. لذلك، هو الآن "لا مع ستّي بخير ولا مع سيدي بخير". فالمجلس المركزي المشكّل على المقاس المطلوب حقّق ما أراده الرئيس، وهو تثبيت رئاسته وتحكّمه في النظام السياسي الفلسطيني بمختلف مكوّناته، وحسين الشيخ نائب رئيس اللجنة التنفيذية ورئيس دولة فلسطين، الذي انتخبه سابقًا المجلس المركزي لا اللجنة التنفيذية، وليس نائبَ رئيس السلطة التي حُسمت رئاستها سابقًا بالمرسوم الدستوري لرئيس المجلس الوطني فترة انتقالية. طبعًا الرئيس يحرص على عدم حسم أمر الخليفة وبقاء التنافس قائمًا، ولكن مع خضوع متدرّج بطيء فهو يعرف أنه لا غنى عنه، من هنا نهتف عاش الرئيس المصرّ على الاحتفاظ بمفاتيح السلطة كلّها، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، من دون معالجة أي شيء، فاستراتيجية البقاء والانتظار هي المعتمدة بلا منازع.
لا حاجة إلى القول إن ما يجري غير قانوني وغير شرعي، فهذا معروف، ولكن من الضروري إظهار المذبحة القانونية، وليس السياسية فقط، لأن ما يجري لا يتم من خلال الاحتكام إلى الشعب عبر الانتخابات، فكلّ المؤسّسات لم تُنتخب منذ فترة طويلة، ولا تستند إلى توافق وطني ولا إلى النظام الأساسي للمنظّمة، الذي يتطلّب تشكيل مجلس وطني جديد منذ فترة طويلة، ولا إلى القانون الأساسي الذي قُتل تمامًا عندما حُلّ المجلس التشريعي المُنتخَب قبل انتخاب مجلس جديد. أمّا المؤسّسات القائمة فهي أبعد ما تكون من أن تمنح الشرعية لأحد، خصوصًا بعد حصاد الفشل المتواصل، فلم يُدحر الاحتلال ولا تجسّد الاستقلال، لا عبر المفاوضات والتنازل، ولا من خلال المقاومة، ما يوجب المراجعة والتقييم والتغيير.
ليس الأمر الأكثر أهمية وخطورة وسوءًا الألفاظ التي استخدمها الرئيس في خطاب افتتاح أعمال المجلس المركزي، بل الأخطر في أنه ساوى بين حركة حماس والاحتلال في المسؤولية عن الإبادة الجماعية، خلافًا لبيان المجلس المركزي، الذي حمّل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن الإبادة الجماعية والنكبة الجديدة، إن لم يكن الرئيس الفلسطيني قدّ حمّل "حماس" المسؤولية الأكبر، وطالبها بالتخلّي عن السلطة وتسليم سلاحها، وتسليم الأسرى لديها، وتشكيل حزب سياسي؛ أي الموافقة على الشروط الإسرائيلية من دون تحقيق أيّ شيء، وبلا ضمانات بتحقيق أيّ شيء في المقابل، وإنما تقديم أوراق اعتماد على أمل قبول بقاء السلطة الفلسطينية في الضفة وعودتها إلى القطاع، فضلًا عن مطالبة "حماس" بالموافقة على التزام ما تلتزمه منظّمة التحرير الفلسطينية. كما دعا عبّاس، بعد ذلك كلّه، في مفارقة غريبة عجيبة، إلى حوار وطني من أجل تحقيق المصالحة الوطنية. حوار حول ماذا؟ فلم تُؤخذ الدعوة بجدية من أيّ طرف. فبعد الخطاب الذي أبقى القديم على قدمه وواصل التدهور ولم يفتح نافذة الأمل، لم يتبقَ سوى الدعوة الصريحة لـ"حماس" برفع الراية البيضاء. فإذا كانت "حماس" مسؤولةً عن الإبادة قبل (أو جنبًا إلى جنب مع) الاحتلال، فيجب محاكمتها ومساءلتها وعقابها، وليس الحوار من أجل الوحدة معها.
قد تتفق مع "طوفان الأقصى" أو لا تتفق، ولكن لا جدال أن الاحتلال يتحمّل المسؤولية الكاملة عن وقوعه، وهو لا يحتاج إلى ذرائع مع أنه جاهز لاستغلال أيّ فرصة كما حصل فعلًا، من دون القفز عن ضرورة (وأهمية) تقييم "طوفان الأقصى" تقييمًا شاملًا مسؤولًا، وما يدل عليه من أخطاء في الحسابات والتقديرات أدّت إلى نتائج وخيمة، ومساءلة "حماس" (مثلما لا بدّ من مساءلة مختلف الأطراف عمّا فعلت وما أوصلت الشعب والقضية إليه). لو سلّمنا جدلًا بأن "حماس" نفّذت شروط الرئيس، فهل يستطيع استلام سلاحها في ظلّ أن سلطته غير موجودة في القطاع وترفض دولة الاحتلال عودتها إليه، وتعتبر أن الرئيس عبّاس، على الرغم من تنازلاته كلّها، يمارس الإرهاب الدبلوماسي، ولا يفرّق نتنياهو (كما صرّح مرارًا وتكرارًا) بين "حماس" و"فتح" وعبّاس. ... إضافة إلى ما سبق، هل ما يجري في الضفة الغربية نموذج يستحقّ تعميمه على القطاع؟ هل للسلطة في الضفة سلطة، أم يقوّض الاحتلال السيادة والسيطرة الأمنية الكاملة بشكل منهجي ومتدرج، وصولًا كما يُستنبَط من برنامج الحكومة الإسرائيلية وممارستها، إمّا إلى حلّها وإقامة إدارات محلية بدلًا منها، أو تفريغها بالكامل من محتواها السياسي والوطني والتمثيلي؟
لو كانت القرارات التي اتخذها المجلس المركزي جدّية، خصوصًا بشأن إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال، لما جرت شيطنة "حماس"، بل المسارعة إلى فتح الأقفال التي تعيق إقامة الوحدة الوطنية، على أساس برنامج واحد وقيادة واحدة وسلطة واحدة وسلاح واحد، تحت مظلّة منظّمة التحرير الموحّدة، وهذا يمكن أن يكون بالشروع في تطبيق قرارات إعلان بكّين. فلا أحد يصدّق قرار وقف أشكال التنسيق الأمني كلّها، الذي حُذف بعد ذلك من النصّ الذي وزّعته وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إضافة إلى حذف أجزاء عديدة، مثل الحديث عن تجميد الاعتراف بإسرائيل، خشية إغضاب حكّام تلّ أبيب وواشنطن. وجدير بالذكر أن عشرات القرارات اتُّخذت في السابق من دون تطبيق، ويتطلّب توافر نيّة تطبيقها استنفارًا وطنيًا شاملًا لكلّ مكونات النظام السياسي، بما في ذلك الفصائل والنقابات والاتحادات والمؤسّسات على اختلافها، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ، استعدادًا لردّة فعل دولة الاحتلال، وليس إعلانه وإبقاء كلّ شيء على حاله، ما يعني أنه لذرّ الرماد في العيون وإبقاء القديم على قدمه.
في الطريق، هناك متغيّرات في الإقليم والعالم حصلت وفي طريقها إلى الحدوث، لا بدّ من الاستعداد لها بمختلف احتمالاتها، مثل إمكانية التوصّل إلى اتفاق إيراني أميركي، وإنهاء الحرب الأوكرانية، ومعرفة مصير الحرب التجارية، ومصير سورية، واستمرار أو توقّف الإبادة الجماعية، والصفقات الكبرى بين الدول الخليجية والإدارة الأميركية، التي يمكن أن تترافق مع (أو تتبعها) اتفاقات إبراهيمية جديدة مع عدد كبير من الدول العربية والإسلامية، وهناك مؤتمر دولي في يونيو/ حزيران المقبل في نيويورك للدفع بإقامة دولة فلسطينية، فضلًا عن الصراع المتصاعد لرسم عالم جديد لن تكون فيه الولايات المتحدة الدولة العظمى المسيطرة وحدها على العالم.
تستوجب هذه المتغيّرات كلّها أن يكون الفلسطينيون جاهزين للتفاعل معها لكي لا يكونوا الخاسرين منها، أو ليقلّلوا الخسارة ويعاظموا الفرص المتاحة. الاستعداد الفلسطيني يكون إمّا في وحدة على أسس وطنية وديمقراطية وشراكة حقيقية، وهذا متعذّر في ضوء خريطة القوة الحالية، وتوجّهات القيادة الرسمية، ونتائج المجلس المركزي التي تعمّق الانقسام وتعزّز الهيمنة والتفرّد وعدم وضوح رؤية "حماس" وأولوياتها، أو الاتفاق على خطّة مشتركة في مواجهة الإبادة الجماعية والضمّ والتهجير ومخطّط تصفية القضية من مختلف أبعادها، وتعطي الأهمية لإعادة الإعمار وتطبيق الخطّة العربية، وتشكيل وفد فلسطيني موحّد للتفاوض تحت راية منظّمة التحرير، وهذا صعب، ولكن ليس مستحيلًا، لأن التاريخ القديم والجديد يشير إلى توحّد حتى الأعداء في مواجهة عدو مشترك وخطر داهم يهدّد الجميع، فهل تتم المسارعة إلى الموافقة على خطّة مشتركة لإحباط الخطر المشترك، أم تبقى دوّامة التدمير الذاتي هي المسيطرة؟