حين هُجِّرنا في النكبة، لم يكن هناك جدل واسع حول التهجير، لا في خطاب الاحتلال ولا في خطاب الإمبراطورية التي دعمته. لم يكن التهجير موضوعًا للنقاش، بل كان ممارسة مادية، فعلاً استعمارياً يؤسس للواقع الجديد بدلًا من أن يُعلن عنه. أكثر من 500 قرية فلسطينية دُمِّرت دون أن يُسمح للمحو أن يصبح خطابًا، بل ظل مختبئًا داخل صمت الدولة الجديدة، يُعاد إنتاجه عبر الإنكار والمحو المزدوج: محو الفلسطيني ومحو المحو نفسه.
اليوم، حين يُطرح التهجير، فإن ما تغيّر ليس منطق الاستعمار، بل آلياته في الخطاب. لم يعد المحو صامتًا تمامًا، بل أُعيدت صياغته بلغة تجعل اقتلاع الفلسطيني إجراءً إداريًا، ضرورة أمنية، أو حتى عملاً إنسانياً. حين تحدث بايدن عن التهجير في بدايات الحرب، غلّفه بمصطلح "الممر الإنساني" إلى سيناء، حيث لم يكن الفلسطيني مُرحَّلًا قسريًا، بل كان يُمنح طريقًا نحو "الأمان"، كما لو أن الطرد يصبح أقل وحشية إذا صِيغ في لغة الإغاثة. المسألة ليست فقط في التهجير، بل في الشكل الذي يُقدَّم به، في القوالب التي تجعل الجريمة قابلة للنقاش بدلاً من أن تكون غير مقبولة على الإطلاق.
في المقابل، حين يتحدث ترامب عن "الخيار الأردني"، فإنه لا يتحدث فقط عن غزة، بل يعيد إنتاج مخططات قديمة تمتد إلى الضفة، ولربما الداخل الفلسطيني تحت غطاء الحديث عن سوريا، فأهمية الخطاب هنا هو تطبيع التهجير ومساومة النظام العربي علي تقبله.
وهنا تتضح ضرورة المقاومة. ليست المقاومة ضرورة لأن الفلسطيني يرفض الاستعمار فقط او العيش بذل أو تطلعه للانعتاق والتحرر، بل لأنها هي الفعل الوحيد الذي يوقف الاستعمار عن فرض منطق الحتمية، عن تحويل الطرد إلى مسار طبيعي بلا كلفة. القوى التي تدفع باتجاه التهجير والحسم، والتي تصاعد نفوذها خلال العقدين الأخيرين، لم تصل بعد إلى لحظة التمكين الكلي، لكنها تقترب منها. حتى الآن، لم تستحوذ هذه القوى على كل مفاصل القرار في دولة الاحتلال، ولم تحقق بعد سيطرة مطلقة على السياسات الغربية، لكن إذا استمر مسار الأمور بلا عائق، فإن الحسم سيصبح أكثر من مجرد مشروع، بل واقعًا متحققًا.
في هذا السياق، قد يبدو أن الكارثة الكبرى في غزة، حيث الدمار الشامل ومنع إعادة الإعمار، هي التهديد الأخطر. لكن الخاصرة الرخوة الحقيقية ليست هناك، بل في الضفة الغربية. في غزة، التهجير صعب رغم حجم الدمار، لانه مجتمع راكم قوة وخلق سبل البقاء، أو لنقل خلق إمكانية البقاء دون ارتهان للنظام الدولي بالمعنى الكلي (لا يعني ذلك ان التهجير لن يقوم ولكن يمتلك ما لا يمتلكه الاخرون في فلسطين). أما في الضفة، فإن الهندسة الاستعمارية تتم بصورة أكثر هدوءًا، أكثر انتظامًا، عبر مزيج من التوسع الاستيطاني، والضغط الاقتصادي، والقمع الأمني، مما يجعل التهجير هناك عملية طويلة الأمد، لكنها قد تكون أكثر حسمًا من أي سيناريو آخر.
رهان قيادات الضفة على النظام الدولي والعربي، وما توفره السلطة من خدمات أمنية، يعني أنهم قد ربطوا مصيرهم بمظلة سياسية ترى في وجودهم وظيفة، لا حقًا ثابتًا. رهانهم على هذا النظام، الذي يقول أطراف مهمة فيه اليوم بكل وضوح: "أتى وقت التهجير"، يكشف حدود الرؤية التي حكمت سياساتهم لعقود. لم يكن الرهان يومًا على الشعب، ولا على بناء قوة فلسطينية مستقلة، بل على استمرار معادلة فرضها اتفاق أوسلو، معادلة تقوم على إدارة الفلسطينيين، لا تمكينهم.
والمأساة أنه إذا حان موعد الحسم، فإن تلك القيادات ستكون بالفعل في الشقق التي اشترتها في عواصم غربية وعربية، وستهرب أسرع من سرعة البرق.
المسألة إذن ليست إن كانت المقاومة ضرورة، بل كيف يتموقع الفلسطيني داخل هذا الصراع؟ كيف يتحول من موضوع للتهجير إلى فاعل قادر على إنتاج معادلة جديدة؟ كيف يكسر السردية التي تحاول إعادة تقديم محوه كجزء من "حل"؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن تُطرح. كيف يتموقع الفلسطيني داخل هذا الصراع، لا كموضوع للإبادة، بل كفاعل في إنتاج المعادلة ذاتها؟