خاص - قدس الإخبارية: أكثر صفات محمد الضيف التي يجمع عليها من عرفوه ورافقوه في مشواره النضالي الطويل، منذ الانتفاضة الأولى، إلى جانب ذكائه الشديد وشجاعته هي "الصبر"، حتى قال أحد مرافقيه خلال فترة تنقله في الضفة المحتلة، في التسعينات، إن "الرجل مستعد للبقاء في مكان واحد لشهور طويلة دون أن يشعر بالملل"، في إشارة إلى قدراته على التكيف والصبر الطويل على ظروف المطاردة القاسية التي لم يعرف شيئاً خارجها طوال عقود.
الأناة والصبر لم تكن سوى جزء من شخصية استراتيجية ميَزت الشهيد محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام، في رحلته مع الجهاز العسكري لحركة حماس منذ بداياته الشاقة التي كان له نصيب فيها، إلى فترة التسعينات التي كابد فيها مع رفاقه ملاحقة مزدوجة من أجهزة الاحتلال والصدام مع السلطة الفلسطينية، ثم إلى انتفاضة الأقصى ودخول الكتائب في مرحلة جديدة من التطوير، إلى مراحل ما بعد تحرير غزة في 2005، وصولاً إلى الضربة الأكبر (طوفان الأقصى) وحرب الإبادة والمواجهة البرية مع جيش الاحتلال.
فصلت قصيرة بين الإفراج عن الضيف من سجون الاحتلال، بعد 16 شهراً من اعتقال خلال حملة استهدفت حركة حماس، في الشهور الأولى من انتفاضة الحجارة، حتى التحق بالنواة الأولى للجهاز العسكري في قطاع غزة، مع كوادر من الحركة بينهم الشهيدين ياسر النمروطي (أول قائد عام للكتائب) ومجدي حماد وغيرهم.
تأسيس الجهاز العسكري… نثر البذور
بعد مشاركته في المجهود العسكري للكتائب، في غزة، توجه الضيف مع عدد من مطاردي القسام إلى الضفة المحتلة، حيث التقى مع خلايا للقسام كانت قد تشكلت فيها، وشارك مع عدد من المطاردين في تأسيس خلايا وقيادة الجهاز العسكري للحركة، في الضفة، بينهم صالح العاروري وخالد الزير ومحمد عزيز رشدي ويحيى عياش وأمجد خلف وعبد الرحمن العاروري وغيرهم.
هذا المسار الذي انخرط فيه محمد الضيف في تأسيس خلايا للقسام والضفة، تعبير عن التصميم والإرادة التي رسمت خياراته إلى جانب المجموعات والقيادات التي عمل معها، وهي عملية أشبه بالحفر في الصخر نظراً لحجم الملاحقة الأمنية والعسكرية من أجهزة الاحتلال، والقدرات البسيطة المتوفرة لدى حركة حماس وجهازها العسكري.
ترى تحليلات تاريخية لهذه المرحلة (بداية التسعينات) أن العمل العسكري الفلسطيني، في الضفة المحتلة وقطاع غزة، كان يتجه إلى تحقيق نموذج قريب من تجربة المقاومة، في جنوب لبنان، في ذلك الحين، التي كبَدت جيش الاحتلال خسائر فادحة في الضباط والجنود، من خلال عمليات استنزاف متواصلة، وأن توجه اسحاق رابين رئيس حكومة الاحتلال السابق إلى اتفاقيات تسوية مع منظمة التحرير، كان ضمن محاولات إعطاء الاحتلال أسباب بقاء جديدة وتحطيم حركة المقاومة العسكرية المتصاعدة حينها.
تحدي أوسلو
مثلت اتفاقية أوسلو تحدياً استراتيجياً وشديد التعقيد أمام محمد الضيف ورفاقه، في كتائب القسام وحماس عامة، وكان عنوانه التعارض الأساسي مع خط منظمة التحرير الذي توجه نحو عقد اتفاقيات تسوية مع دولة الاحتلال، ثم قيام سلطة فلسطينية من وضع (حكم ذاتي) في الضفة المحتلة وقطاع غزة، لأول مرة، وتأسيسها أجهزة أمنية كانت مهمتها في الملاحق الأمنية للاتفاقيات مع "إسرائيل" هي منع العمليات وملاحقة المجموعات التي تشكل خطراً أمنياً.
وصلت السلطة إلى غزة وأريحاً أولاً قبل أن تتوسع صلاحياتها الأمنية والإدارية إلى مناطق أخرى من الضفة المحتلة، وكانت كتائب القسام والأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة أعلنت مواصلتها العمل النضالي ضد الاحتلال، وفي هذه الفترة كان اسم يحيى عياش (المهندس) يصعد عالياً في عالم الصراع بين المقاومة الإسلامية ودولة الاحتلال، وفي أوج المطاردة انتقل إلى القطاع والتحق مع محمد الضيف وعدد من المطاردين في غزة، وبدأت مرحلة قاسية من الملاحقة المزدوجة.
نفذت كتائب القسام سلسلة عمليات استشهادية، خاصة بعد المجزرة التي نفذها إرهابي صهيوني في المسجد الإبراهيمي، في الخليل، وشنت استخبارات الاحتلال مع أجهزة أمن السلطة حملة مداهمات واعتقالات ومطاردة واسعة وشديدة للوصول إلى (المهندس)، وفي 1996 اغتال الاحتلال يحيى عياش بهاتف مفخخ خلال الثواني الأولى من حديثه مع والده.
خرج مئات آلاف الفلسطينيين في جنازة (المهندس) الذي صعد إلى مرتبة أيقونية عالية، في تاريخ الشعب الفلسطيني، وفي المشهد التاريخي كان مطاردون من كتائب القسام يحملون لافتة كتب عليها (ستركع إسرائيل تحت اقدام يحيى عياش). أطلق محمد الضيف بعد اغتيال الشهيد يحيى عياش سلسلة عمليات استشهادية، بالشراكة مع رفاقه في كتائب القسام، أبرزهم حسن سلامة الذي توجه إلى الضفة المحتلة متسللاً عبر السلك الشائك وهناك ارتبط مع عدد من قادة الكتائب وكوادرها بينهم عماد عوض الله وعادل عوض الله ومحيي الدين الشريف ومحمد أبو وردة وغيرهم، وعاشت دولة الاحتلال أياماً قاسية في ما أطلقت عليها كتائب القسام اسم (عمليات الثأر المقدس).
الفعل الاستراتيجي الذي أطلقه محمد الضيف ورفاقه حينها، لم يتركز فقط في الثأر للمهندس الشهيد يحيى عياش، بل كان ضربة لمحاولات (تصفية القضية الفلسطينية) عبر اتفاقيات التسوية، كما عبَرت أدبيات الحركة الإسلامية (حماس والجهاد) وفصائل المعارضة من الحركة الوطنية.
أمام الحملة الشرسة التي تعرضت لها كتائب القسام والجناح العسكري للجهاد الإسلامي، بعد سلسلة العمليات الاستشهادية، من أجهزة الاحتلال والسلطة، كان لمحمد الضيف دور تاريخي في حماية الجهاز العسكري لحماس أمام هذه الضربات القاسية، ورفض في تلك السنوات عروض الالتحاق بالأجهزة الأمنية أو إلقاء السلاح، وفي الوقت ذاته لم ينجر إلى الصدام الداخلي مع السلطة وحافظ على طهارة السلاح رغم حجم التعذيب والملاحقة، وأقام علاقات مع كوادر في حركة فتح وعناصر في الأجهزة كان لهم دور في المقاومة لاحقاً.
صبر محمد الضيف على سنوات المحنة تلك مع رفاقه، في كتائب القسام، وقيادات سياسية تاريخية بينهم عبد العزيز الرنتيسي وإبراهيم المقادمة الذي كان له دور في العمل العسكري من خلال (الجهاز الخاص) الذي كان الشهيد القائد مروان عيسى يشرف عليه، وساهموا جميعاً في منع تدمير الحركة وجهازها العسكري.
الانتفاضة الثانية… ولادة القسام الثانية
قدم الانفجار الشعبي في أيلول/ سبتمبر 2000 بعد اقتحام أرئيل شارون للمسجد الأقصى فرصة استراتيجية لمحمد الضيف وحركة حماس، وفصائل المقاومة، لإزاحة الأضرار الشديدة التي لحقت بالأجهزة العسكرية جراء الحرب الأمنية والعسكرية التي فتحت عليها، في سنوات ما بعد "أوسلو"، وقاد لاحقاً مع الشيخ الشهيد صلاح شحادة وإشراف الشيخ أحمد ياسين عملية تطوير للكتائب، في إطار قوات موحدة تخضع لقيادة مركزية، في قطاع غزة، وإنهاء مرحلة المجموعات والخلايا المتفرقة.
انكب الضيف وقيادة كتائب القسام وكوادرها، في سنوات الانتفاضة، على عملية متعددة تتعلق بالمستوى الأولى بالتصنيع العسكري في سياق السعي لامتلاك أدوات تساعد في مواجهة جيش الاحتلال المدجج بأسلحة حربية وتكنولوجيا غربية وأمريكية، وتطوير القوة البشرية في الكتائب من خلال الدورات والمهارات وتوسيع أعداد الملتحقين بها، وتنفيذ عمليات ضد مواقع الاحتلال والمستوطنات تحقق الهدف المحوري الذي صرح عنه قادة سياسيون وعسكريون وهو تحرير قطاع غزة.
مضت كتائب القسام وقيادتها، في هذه العملية من محاولات بناء قوة تحقق الأهداف المرحلية والعليا للشعب الفلسطيني، في خضم حرب أمنية وعسكرية شنتها دولة الاحتلال عليها مع فصائل المقاومة، وارتقى خلال سنوات الانتفاضة عديد القيادات والكوادر التاريخيين، وواصل محمد الضيف مساره في كتائب القسام وتولى مسؤولية القيادة العليا بعد استشهاد الشيخ صلاح شحادة.
كثافة عمليات المقاومة والضربات النوعية التي تعرضت لها مواقع الاحتلال العسكرية، خاصة بعد دخول سلاح الأنفاق، تزامناً مع العمليات الاستشهادية، في الداخل الفلسطيني المحتل 1948، دفعت أرئيل شارون رئيس حكومة الاحتلال حينها لأخذ قرار تاريخي بالانسحاب من غزة، وهو الذي كابد هذه المدينة تاريخياً حين كان قائد المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، في فترة السبعينات، وواجه بقسوة عمليات المقاومة حينها، وكان من عرابي عمليات الاستيطان في القطاع، وأعلن يوماً أن "نتساريم تساوي عندها تل أبيب".
تحرير غزة وعين على الضفة
كان محمد الضيف وهو يلقي خطاب النصر، بعد تحرير غزة، في 2005 يقدم للعالم برنامجاً استراتيجياً للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية والعالم، يقوم على مواصلة مراكمة القوة والتطلع إلى تحرير الضفة الغربية وصولاً إلى باقي الوطن. انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من القطاع لم يدفع الضيف ورفاقه إلى الخروج في إجازة أو استراحة، وبعد شهور، نفذت كتائب القسام مع فصائل المقاومة عملية خطف الجندي جلعاد شاليط تأكيداً على مركزية عمليات أسر الجنود والمستوطنين في التفكير العسكري للحركة، ومواصلة لهذا الطريق الذي انخرط فيه الضيف منذ التسعينات حين كان يشرف ويشارك في التخطيط لعمليات خطف جنود، نفذتها خلايا للقسام في الضفة والقدس المحتلتين.
نحتت كتائب القسام بقيادة الضيف، في سنوات ما بعد تحرير غزة، في صخر الحصار القاسي والإمكانيات المحدودة وواصلت تطوير قدراتها العسكرية، على مستويات مختلفة: الدفاعي من خلال تنمية قدرات المواجهة مع جيش الاحتلال داخل غزة، الأدوات النوعية (الصواريخ، الطائرات المسيَرة) وغيرها، بناء شبكة اتصالات توفر حماية من عمليات التجسس والاستخبارات الإسرائيلية، بناء أنفاق استراتيجية لتحقيق عمليات دفاع قوية وهجوم من تحت الأرض إلى مستوطنات ومواقع الاحتلال، تطوير العلاقات مع فصائل المقاومة العسكرية، بناء جهاز إعلامي مؤثر في الحرب النفسية، تطوير جهاز الاستخبارات العسكرية واستخبارات الميدان والإشارة وجهاز تقدير الموقف واختراق العدو، تطوير القوة البشرية للكتائب، وتحسين الجهاز التنظيمي وإقامة مجلس عسكري أعلى يشرف على كامل القوات.
وكانت الخطوط العريضة لهذه العملية الاستراتيجية: تكبيد الاحتلال خسائر فادحة في أي عملية عسكرية داخل القطاع، شن عمليات هجومية في عمق الأراضي المحتلة، مواجهة عمليات الحصار والعدوان على الشعب الفلسطيني، تقديم الدعم للمقاومة في الضفة والقدس والداخل بطرق مختلفة، مواجهة استراتيجية الاحتواء الإسرائيلية لحركة المقاومة في القطاع.
تعلم الحرب من الحرب
ومع كل مواجهة وحرب خاضتها المقاومة الفلسطينية، في قطاع غزة، كانت تخرج بحزمة من الدروس التكتيكية والاستراتيجية العسكرية منها أو الأمنية، وهذا يظهر بالمقارنة بين تجربة القتال البري في حرب 2008، التي كانت الكتائب والأجهزة العسكرية الفلسطينية لم تطور بعد حزمة الأنفاق التي ظهرت لاحقاً، وبين المعارك الحالية وبينها "طوفان الأقصى".
طبع محمد الضيف كتائب القسام، في هذه السنوات، بشخصيته (الصبر، الاستراتيجية، طول النفس) وبقي يتابع أدق التفاصيل حتى وصل مع فريقه في القيادة العسكرية والأمنية للجهاز العسكري لحماس، وبدعم من القيادة السياسية، بكتائب القسام إلى القدرة على الصمود والاستمرار في القتال رغم ضراوة الحرب التي شنها الاحتلال على غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
القسام يلتحم بالضفة والقدس
الانغماس في تطوير قدرات القسام لم يحرف محمد الضيف عن الارتباط الذهني والاستراتيجي والسياسي مع الضفة والقدس المحتلتين وبقية البلاد، وحرص رغم قسوة الظروف السياسية والميدانية بسبب الحصار المشدد المفروض على غزة، على تحدي برنامج حكومات الاحتلال لفصل القطاع عن الضفة وبقية فلسطين. وبدأ في السنوات الأخيرة تدخل القسام المباشر في مواجهة اعتداءات الاحتلال خاصة على القدس والأقصى، وأطلقت الكتائب عمليات عسكرية وخاضت جولات قتالية تحت عنوان مواجهة الخطر على الأقصى والقدس.
وفي مستوى استراتيجي آخر، نجح الضيف في تجنيب كتائب القسام الأضرار السلبية التي عاشتها المنطقة العربية، بعد الحروب الداخلية، عقب مرحلة الثورات العربية، والخلافات التي وصلت إلى محور المقاومة، بعد الثورة السورية، وحافظ على مستوى من العلاقات مع حزب الله وإيران في إطار الاتفاق على العداء لـ"إسرائيل" ومحورية قضية فلسطين والخطر الإسرائيلي على كل الأمة العربية والإسلامية، ومن هذه العلاقات التي تطورت وصولاً إلى ما عرف بـ"وحدة الساحات"، تبادلت هذه الأطراف خبرات وقدرات استخباراتية وعسكرية، وحصلت الكتائب على أسلحة ودورات وطورت من كادرها البشري مع فصائل المقاومة في القطاع.
"طوفان الأقصى"... محمد الضيف في تجلياته الاستراتيجية
صباح السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أطلق محمد الضيف مع قيادة حماس العسكرية والسياسية ضربة نوعية واستراتيجية ومفاجئة نحو دولة الاحتلال كان عنوانها الأكبر (محاولة تغيير تاريخي في فلسطين والمنطقة)، كما عبَر قريباً من هذه الكلمات في المقطع المصور الذي كشف عنه مؤخراً، خلال حديثه لقادة الألوية والكتائب، في مرحلة التحضير لعملية "طوفان الأقصى".
بعد سنوات من (الصبر الاستراتيجي) والانغماس والفناء التام في عملية تطوير المقاومة، من وسط قسوة الظروف والحصار، نجح الضيف ورفاقه في توجيه ضربة شديدة لجيش الاحتلال، أسقطت في الساعات الأولى مقر قيادة فرقة غزة والمواقع العسكرية التابعة لها والمستوطنات في منطقة حمايتها، وأسرت الكتائب مع فصائل المقاومة عشرات الجنود والمستوطنين، وقتلت عدداً من الضباط من مختلف المستويات العسكرية ومئات الجنود.
زعزع الضيف ورفيقه السنوار وبقية قيادة حماس في هذه العملية الجدار الأمني والعسكري الذي توهمت دولة الاحتلال أنه يحيمها من الفلسطينيين، الذين حاصرتهم لسنوات في قطاع غزة، وتعمل على تهجيرهم من الضفة والقدس، والسيطرة على المسجد الأقصى، وإنهاء القضية الفلسطينية إلى الأبد. ودمرت أقدام مقاتليه وهي تتقدم نحو "غلاف غزة" استراتيجية نتنياهو لاحتواء حماس في وضع حكومي يبيقها تراوح بين القبول بتسهيلات أو تحسينات على الوضع الاقتصادي في غزة.
وفي الأفق الأوسع نادى محمد الضيف شعوب المنطقة للالتحاق بمعركة تكون بداية لتحقيق استقلال عربي، والتخلص من الاحتلال الذي أطال ليل العرب، وحرمهم من التنمية ودمر بلدانهم. وكانت "طوفان الأقصى" بداية مرحلة جديدة في المنطقة ما زالت ملامحها لم تتضح بعد وتبعاتها لم تنته.
في هذه الرحلة الطويلة لمحمد الضيف، يمكن القول إنه "الرجل الذي حمى الكتائب وبناها على صورته الاستراتيجية"، وبقي يرعاها مع رفاقه الذين سبقوه في الشهادة أو واصلوا الطريق بعده حتى أصبحت معادلة إقليمية ووطنية فلسطينية، ومن صبره الشديد وتصميمه صمم مؤسسة شديدة التنظيم لم تتراجع رغم الضربات التي تعرضت لها.