نجحت المقاومة الفلسطينية في إبرام اتفاق يضع حدًا لحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذا الاتفاق يُغلق فصلًا من أكثر الفصول دموية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، ويأتي في اليوم 472 من القتال المستمر، مسجلًا أطول حرب تشهدها دولة الاحتلال منذ نكبة عام 1948.
خلال هذه الحرب الطويلة، سطر الشعب الفلسطيني أبلغ صور الصمود والمقاومة في وجه آلة القتل الصهيونية، التي استهدفت الأطفال والعائلات والمستشفيات والمنازل الآمنة وحتى مواقع النزوح وخيام النازحين، لم تترك الحرب أي بقعة في قطاع غزة إلا ولفها الدمار، في محاولة إسرائيلية لكسر إرادة الشعب الفلسطيني وتفتيت قدرته على الصمود. ومع ذلك، وقف الشعب الفلسطيني ومقاومته سدًا منيعًا أمام هذا العدوان الشرس.
منذ الأشهر الأولى للحرب، استطاعت المقاومة تحديد معالم التفاوض، واضعة أسسًا واضحة لأي اتفاق مستقبلي، وخاضت المواجهة بشكل تكامل فيه الصمود العسكري والسياسي والشعبي، مما أثمر في النهاية عن اتفاق يمثل إفشالًا صريحًا وواضحًا لأهداف الاحتلال، ويؤكد فشل آلة القتل الإسرائيلية، المدعومة بمنظومة غربية منحازة في تحقيق اختراقات نوعية، ويعكس مدى صلابة المقاومة وقدرتها على فرض إرادتها في أحلك الظروف.
كان واضحًا منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى أن ارتداداته لن تتوقف عند حدود قطاع غزة، بل إن آثاره الاستراتيجية ستتجاوز حدود العدوان الراهن. هذا التحول، الذي كرسته المقاومة بثباتها وصمودها، وعززته الهزيمة الاستراتيجية التي لحقت بجيش الاحتلال، سيكون له انعكاسات طويلة الأمد، تشكل معادلات الصراع في العقود القادمة.
ويمكن الجزم أن ما تحقق ليس مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار، بل هو منعطف تاريخي يُرسخ قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة أعتى قوى الاحتلال، ويؤسس لتحولات استراتيجية عميقة تُعيد تعريف مستقبل الصراع.
استراتيجية التفاوض وتفكيك أهداف الحرب
مع انطلاق حرب الإبادة، أعلن مجلس الحرب الصهيوني بقيادة بنيامين نتنياهو عنأهدافه الرئيسية التي تمثلت في القضاء على حركة حماس وإنهاء وجود المقاومة الفلسطينية، وتفكيك البنى السلطوية القائمة في قطاع غزة، واستعادة أسرى الاحتلال المحتجزين لدى المقاومة عبر الضغط العسكري. هذه الأهداف، التي بدت في ظاهرها واضحة ومباشرة، حملت في طياتها توجهات استراتيجية أعمق تمثلت في محاولة فرض وقائع جديدة على الأرض، تُغير ملامح المشهد في قطاع غزة وتجعل تحقيق أي مكاسب وطنية مستقبلاً أكثر صعوبة.
العمليات العسكرية الميدانية والتصريحات الإسرائيلية أكدت وجود أهداف خفية تتجاوز المعلن، إذ برز من بين هذه الأهداف التهجير القسري لسكان القطاع، خصوصًا أهالي شمال غزة، الذين واجهوا ضغوط مكثفة لدفعهم نحو النزوح جنوبًا، في خطوة هدفتلتحويل هذه المساحة الجغرافية إلى منطقة عازلة تخدم المصالح الأمنية الإسرائيلية.
وفي ذات السياق فقد أعادت بعض الأصوات في دولة الاحتلال الحديث عن طموحات استيطانية في القطاع، وهو ما يعكس استغلال الاحتلال للحرب كمظلة لتحقيق طموحات تاريخية كانت قد تراجعت منذ سنوات.
إلى جانب ذلك، سعى الاحتلال إلى فرض نظام حكم بديل في غزة، يكون مواليًا لها وقادرًا على تحمل أعباء إدارة القطاع، بينما تستفيد إسرائيل من حالة السيطرة دون الاضطرار إلى تحمل مسؤوليات قانونية أو مالية.
في هذا السياق، اتخذت المقاومة الفلسطينية موقفًا حاسمًا تجاه أي محاولات تفاوضية لا تتضمن وقفًا شاملًا وفوريًا للعدوان، وهو موقف لم يكن وليد لحظة عابرة، بل جاء نتيجة لاستخلاصات على أثر انهيار الصفقة الإنسانية التي جرت في ديسمبر/كانون الأول 2023، إذ بات محسومًا أن الاحتلال يسعى لاستغلال التهدئة المؤقتة لاستعادة جنوده الأسرى، ثم مواصلة حربه بوتيرة أشد لتحقيق مكاسب استراتيجية على حساب الدم الفلسطيني، مما حتم صياغة استراتيجية تفاوضية تأخذ بعين الاعتبار أهداف الاحتلال المعلنة والخفية، وتضع حدودًا واضحة تمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها على المدى الطويل.
ركزت الاستراتيجية التفاوضية للمقاومة على مجموعة من الأولويات والضوابط، كان أبرزها عودة النازحين إلى أماكن سكنهم بشكل غير مشروط، خصوصًا في مناطق شمال غزة، حيث يُعتبر هذا الشرط ضمانة رئيسية لإفشال المخططات الإسرائيلية بتحويل هذه المناطق إلى مناطق خالية من السكان يمكن استغلالها عسكريًا أو استيطانيًا. كما شددت المقاومة على ضرورة انسحاب جيش الاحتلال من جميع أراضي القطاع، لأن أي بقاء للقوات الإسرائيلية يعني استمرار العدوان بشكل مباشر أو غير مباشر وقبول ضمني بإعادة الاحتلال العسكري لقطاع غزة. إلى جانب ذلك، حسمت المقاومة بوضوح مصير أسرى الاحتلال وسبيل إطلاق سراحهم وهو الوصول لصفقة تبادل أسرى مشرفة تُعيد الحرية لآلاف الأسرى الفلسطينيون المنسيون خلف القضبان.
الربط بين هذه المطالب يعكس رؤية استراتيجية واضحة تهدف إلى كسر دائرة استغلال الاحتلال للمفاوضات لتحقيق أهدافه. فإبرام صفقة تبادل أسرى دون ضمان انسحاب جيش الاحتلال ووقف شامل للعدوان، يعني أن إسرائيل يمكن أن تعود إلى القتال بمجرد تحقيقها لمكاسبها المباشرة. وبناء عليه جاءت مطالب المقاومة مشروطة بضمانات تحول دون استئناف العدوان، وتجعل من أي هدنة طويلة الأمد فرصة لترتيب أوضاع القطاع بعيدًا عن تدخلات الاحتلال، وهو تقدير أكدته تصريحات بنيامين نتنياهو السابقة، التي أقر فيها بصعوبة العودة إلى القتال في حال تحقق "هدوء طويل"، إذ لطالما أظهر الاحتلال قلقًا من أي وقف طويل للعدوان قد يُفقده زمام المبادرة.
وفقًا لهذا المنظور، استطاعت المقاومة صياغة استراتيجيتها التفاوضية وفق رؤية شاملة، تتجاوز المطالب التكتيكية المباشرة إلى أهداف استراتيجية أعمق تعكس إدراكها العميق لمخططات الاحتلال المعلنة والخفية، وبالتالي العمل على إفشال أهداف الحرب الإسرائيلية ومنعها من تحقيق أي مكاسب على حساب الحقوق الفلسطينية. وبهذا، أظهرت المقاومة قدرتها على إدارة صراع مركب بين مواجهة عسكرية مفتوحة وصياغة مواقف سياسية متماسكة تسعى لحماية الشعب الفلسطيني ومكتسباته.
ميزان الأهداف: اتفاق يُطيح بطموحات الحرب الإسرائيلية
مع الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار، ظهرت ملامح واضحة تؤكد تحقيق المقاومة للجزء الأكبر من مطالبها التي تمسكت بها منذ الأشهر الأولى للحرب. طوال هذه الفترة، حاول الاحتلال الإسرائيلي بكل أدواته العسكرية والاستخباراتية، عبر الضغط العسكري المكثف، والإمعان في المجازر والقتل والدمار، إجبار المقاومة على تقديم تنازلات استراتيجية تضرب جوهر مشروعها الوطني، وتُفرغ أي اتفاق من مضمونه الحقيقي، لتصبح نتائجه مكاسب مباشرة للاحتلال.
وبمقارنة جوهر الاتفاق النهائي مع أهداف الحرب الإسرائيلية، يمكن الوصول إلى عدة خلاصات جوهرية:
أولاً| القضاء على المقاومة: حتى اللحظة الأخيرة وقبيل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، أظهرت المقاومة صمودًا استثنائيًا في الاشتباك المباشر في كافة مناطق القطاع، خاصة في شمال غزة ومدينة رفح وهي مواضع نشاط جيش الاحتلال في الأشهر الأخيرة، ظلت المقاومة في حالة مواجهة مستمرة، مُعطلة خطط الاحتلال لإنهاء أي وجود مقاوم، خصوصًا في شمال القطاع، الذي حاول الاحتلال تحويله إلى منطقة جغرافية "مطهرة" من المقاومة، بهدف جعله قاعدة لتنفيذ مخططاته الاستراتيجية، إذ خلق تصاعدالعمليات العسكرية النوعية للمقاومة، مفاجأة نوعية للاحتلال الذي واجه قتال يومي عنيف وفعال، رفع خسائره البشرية والمادية إلى أقصى حدودها.
طوال أكثر من سنة وخمسة أشهر من الحرب، استمرت المقاومة في عملياتها القتالية المكثفة، ما أثار تساؤلات جدية لدى الاحتلال وأجهزته الأمنية حول جدوى العملية العسكرية برمتها. وإلى جانب عمليات الالتحام الميداني، لم تتوقف المقاومة عن توجيه رشقاتها الصاروخية اليومية، مستهدفة تمركزات قوات الاحتلال، خصوصًا في منطقة "نيتساريم" التي تفصل شمال القطاع عن جنوبه، في أداء عسكري غير متوقع صدم المنظومة الاستخباراتية الإسرائيلية، التي لم تستوعب كيف استطاعت المقاومة الحفاظ على قدراتها وإدامة الاشتباك رغم حجم الدمار والاستهداف.
حسمت هذه المؤشرات أن هدف القضاء على المقاومة، الذي شكل العمود الفقري لمخططات الاحتلال، انتهى إلى فشل ذريع، وتحول إلى أحد أبرز الإخفاقات الإسرائيلية خلال هذه الحرب.
ثانيًا| تفكيك القدرات الحكومية: عمل الاحتلال منذ بداية الحرب على استهداف البنية التحتية الحكومية في غزة، بما في ذلك الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية والخدمية، مثل البلديات ولجان الطوارئ والحكم المحلي، ضمن هدف واضح: تدمير منظومة الحكم القائمة في القطاع وإضعاف بنيتها بالكامل. إلى جانب ذلك، سعى الاحتلال لنشر الفوضى من خلال دعم بعض المجموعات الخارجة عن القانون أو الشخصيات المحلية، وربطها بمخططاته لإيجاد بديل سياسي وإداري للنظام الحالي.
على الرغم من هذه الجهود المكثفة، اصطدم الاحتلال بموقف فلسطيني صلب، أجمعت عليه القوى السياسية والمجتمعية والعشائرية في غزة التي أظهرت وحدة غير مسبوقة، وأفشلت أي محاولات للاختراق الداخلي.
حتى لحظة توقيع الاتفاق، لم ينجح الاحتلال في تقديم نموذج لحكم بديل يمكن أن يروج له على أنه إنجاز ولو شكلي. هذا الفشل الواضح يعني أن الهدف الإسرائيلي بتفكيك القدرات الحكومية قد تحطم أمام صمود المنظومة الوطنية، التي ظلت متماسكة رغم كل الضربات.
ثالثًا| استعادة الأسرى: كان بنيامين نتنياهو يراهن على "الضغط العسكري" كوسيلة لاستعادة الأسرى المحتجزين لدى المقاومة. لأشهر طويلة، رفض الاحتلال أي عروض لتبادل الأسرى، معتمدًا على استخبارات مكثفة وجهود دولية واسعة، شملت أجهزة أمريكية وأوروبية. ورغم ذلك، فشلت كل محاولات الاحتلال في الوصول إلى معلومات دقيقة تُساعده على تحرير الأسرى بالقوة، بينما أدت العديد من العمليات العسكرية إلى مقتل أسرى بدلاً من إنقاذهم.
بعد شهور من الإخفاقات المتتالية، واجه الاحتلال حقيقة واضحة: استعادة الأسرى بالقوة مستحيلة، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا عبر المسار الذي حددته المقاومة، ومع قبول الاحتلال بمبادئ صفقة التبادل التي فرضتها المقاومة، تأكد الفشل النهائي لاستراتيجية الضغط العسكري، وحُسمت معركة الإرادات لصالح المقاومة.
وبناء عليه ومع انتهاء هذه الجولة من الحرب، يتضح أن المقاومة الفلسطينية، مدعومة بصمود شعبي استثنائي، نجحت في إفشال الأهداف الرئيسية للحرب الإسرائيلية، إذاعتمدت المقاومة على استراتيجية متكاملة، جمعت بين الدفاع العسكري الذي استنزف الاحتلال ورفع كلفة وجوده، وبين مواقف سياسية واضحة حددت خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها.
أفضت هذه الاستراتيجية إلى اتفاق يرسخ مكانة المقاومة ويفشل المخططات الإسرائيلية، مما يترك ارتدادات استراتيجية بعيدة المدى على مستقبل الصراع مع الاحتلال.
أفول القوة المطلقة: نهاية زمن الحسم العسكري الإسرائيلي
شكلت قدرة الاحتلال الإسرائيلي على تحقيق حسم عسكري سريع وفعال، إحدى أبرز ركائز استراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي لعقود، والتي استندت إلى تنفيذ معارك طاحنة ومباغتة تعتمد على القوة الغاشمة والجهد الاستخباراتي الدقيق لاستغلال نقاط ضعف الخصوم. وقد خلقت هذه الاستراتيجية حالة من الردع الممتد منذ نكسة عام 1967، تعززت مع كل مواجهة نجح الاحتلال فيها بإظهار قوته.
غير أن معادلة الردع الإسرائيلية بدأت بالتآكل مع الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 تحت ضغط المقاومة اللبنانية، ثم الانسحاب الأحادي من قطاع غزة عام 2005 تحت ضربات المقاومة في قطاع غزة، وهي تراجعات بلورت مؤشرات واضحة على بدء الاحتلال التخلي عن مكاسب استراتيجية تحت وطأة الاستنزاف والضغط العسكري الذي تفرضه قوى المقاومة.
على مدار السنوات اللاحقة، خاض الاحتلال جولات عسكرية عديدة بهدف استعادة ردعه وتحقيق أهداف استراتيجية، كان أبرزها حرب لبنان 2006، التي انتهت بفشل ذريع أظهر عجز الاحتلال عن حسم المعركة أمام مقاومة مدروسة ومتماسكة، وقد تكررت الصورة مع الحروب المتتالية على قطاع غزة في 2008، 2012، 2014، و2021 بالإضافة إلى جولات المواجهة المحدودة بين تلك المحطات، إذ لم تفلح أي من هذه الحملات، سواء الكبرى منها أو المحدودة، في تحقيق أهدافها المعلنة، ما أدى إلى استمرار التفكيك التدريجي لنظرية الحسم العسكري والردع الإسرائيلي.
جاءت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول كأكبر تحدي لهذه النظرية، إذتمكنت المقاومة خلال الهجوم من تحييد فرقة عسكرية إسرائيلية كاملة، تدمير مقدراتها، وأسر عدد كبير من جنودها وضباطها. هذا الحدث الاستثنائي شكل ضربة قاصمة لهيبة الردع الإسرائيلي وفضح هشاشة منظومته الأمنية والعسكرية.
طوال أشهر حرب الإبادة، حاول الاحتلال استعادة هيبة الردع باستخدام كافة أدوات القوة الغاشمة، مستهدفًا إظهار قدرته على الحسم العسكري المطلق، إلا أن هذه الجهود لم تحقق سوى دمار واسع النطاق ومجازر غير مسبوقة في قطاع غزة، دون أن تحقق أي من الأهداف الاستراتيجية المعلنة. وعلى العكس، لم يستطع جيش الاحتلال أن يظهر ولو مشهدًا واحدًا يُمثل "النصر المطلق" الذي سعى إليه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بشدة.
الوصول إلى اتفاق يضع حدًا لهذه الحرب الطويلة، دون أن ينجح الاحتلال في تغيير الواقع استراتيجيًا أو تحقيق أهدافه المعلنة، يُعد دليلًا واضحًا على أفول زمن الحسم العسكري الإسرائيلي، إذ أن فشل الاحتلال في فرض إرادته بالقوة العسكرية يمثل تحولًا استراتيجيًا يؤكد أن استخدام القوة الغاشمة لم يعد كافيًا لتحقيق المكاسب أمام إرادة قوى المقاومة وجهوزيتها على الأرض.
تستمر الارتدادات الاستراتيجية لـ"طوفان الأقصى" في الظهور تباعًا، إذ أن وقف العدوان على قطاع غزة وترسيخ إخفاق الاحتلال في تحقيق أهدافه يشكلان أساسًا لتحولات كبرى في الصراع مع الاحتلال ستعيد صياغة معادلات المواجهة مع إسرائيل لعقود قادمة، وتفتح أمام المقاومة مسارات جديدة لمراكمة الإنجازات والبناء على ما حققته خلال هذه الجولة.