خاص - شبكة قدس الإخبارية: تتوالى أخبار الأحداث الدامية التي تعجز الرقابة العسكرية الإسرائيلية عن ملاحقتها وإيقافها، بينما تستمر المروحيات العسكرية بنقل الإصابات من ساحات القتال شمال قطاع غزة إلى مستشفيات الاحتلال داخل الأراضي المحتلة عام 1948. في تلك المناطق، أعلن الاحتلال مرارًا عن فرض سيطرته العسكرية والعملياتية، وادّعى النجاح في تفكيك بنية المقاومة والقضاء على قدراتها وقياداتها، إلا أن الواقع على الأرض يثبت عكس ذلك، حيث لم يخرج جيش الاحتلال من أي عملية عسكرية في شمال القطاع إلا تحت نيران المقاومة التي واصلت استهداف آلياته حتى خلال انسحابه.
بدأت العملية العسكرية الإسرائيلية في مخيم جباليا، وامتدت إلى باقي مناطق شمال القطاع بهدف تحقيق ما وصفه الاحتلال بـ"التطهير الشامل"، الذي يقوم على ملاحقة عناصر المقاومة فردًا فردًا، وتقديم نموذج عملي لمنطقة خالية تمامًا من المقاومة. ومع ذلك، كانت لهذه العمليات أهداف خفية وغير مُعلنة، أبرزها محاولة الوصول إلى أسرى الاحتلال الذين تُقدر استخباراته أنهم ما زالوا داخل حدود شمال غزة.
رغم كل ما بذله الاحتلال من جهود لتحقيق هذه الأهداف، لم تسر العمليات وفق طموحاته. فقد أظهرت المقاومة قدرة استثنائية على المناورة، وصمودًا فاق تقديرات الاحتلال، بل وتجاوز الأنماط السابقة في استراتيجياتها القتالية. نجحت المقاومة في قلب المعادلة، وبدلًا من أن تكون المعركة ساحة لاستعراض قوة الاحتلال، أصبحت ميدانًا لإثبات قدرة المقاومة على التكيف مع التحديات وفرض قواعد جديدة للصراع، في رسالة واضحة تفيد بأن خطط الاحتلال محكومة بالفشل.
ادعاءات السيطرة المتكررة
مع دخول الشهر الثاني من حرب الإبادة على قطاع غزة، تصاعدت وتيرة إعلانات جيش الاحتلال عن فرض سيطرته العملياتية على مناطق شمال القطاع، إذ بدأت هذه الإعلانات مع بيت حانون، التي كانت الهدف الأول للقوات المتقدمة داخل حدود القطاع في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، واستمرت مع مخيم جباليا الذي أعلن جيش الاحتلال لأول مرة إتمام السيطرة العملياتية عليه في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه.
رغم شراسة القصف وضراوة الاجتياح البري، لم تتوقف المقاومة يومًا عن مقارعة جيش الاحتلال في شمال قطاع غزة، بالرغم من الضربات الموجعة التي تلقتها. لقد كان الشمال هو الهدف الأول في هذه الحرب، وشهد أعنف وأقسى جولات القتال، حيث تعرض سكانه وبنيته التحتية لدمار واسع النطاق، كما أن المقاومة دفعت في هذا الميدان تضحيات جسيمة في مواجهة الاحتلال.
كان ميدان المعارك في شمال القطاع هو الساحة التي استخلص منها مقاومو غزة أهم العبر، فقد حملت تلك المعارك سمات ضراوة استثنائية، ودفعت المقاومة خلالها دماء غالية جعلت من المواجهة هناك نموذجًا أوليًا شكّل أسلوب القتال في باقي المناطق. فالدروس المستفادة من طبيعة الاشتباك في الشمال لم تكن مجرد استجابات تكتيكية آنية، بل أصبحت مرجعًا حكم الخطط العملياتية للمقاومة في جميع مراحل الغزو البري التي تبعت ذلك.
مع كل إعلان إسرائيلي عن السيطرة العملياتية أو تفكيك البنية التحتية للمقاومة في شمال القطاع، كانت الردود الميدانية تأتي مدوية لتقلب رواية الاحتلال، ففي نفس اليوم الذي أعلن فيه الجيش الإسرائيلي سيطرته على بيت حانون، ردت المقاومة باستهداف جيب عسكري إسرائيلي داخل المنطقة نفسها، ما أوقع إصابات مباشرة في صفوف الاحتلال وأثبت استمرارها في قلب المعادلة.
الوضع لم يكن مختلفًا في مخيم جباليا أو بيت لاهيا، حيث كان الرد الميداني للمقاومة حاضرًا بشكل أكثر تأثيرًا في كل مرة. مع كل جولة قتالية، تصاعدت شراسة المقاومة، وزادت قدرتها على إلحاق الضرر بالاحتلال، على الرغم من التدمير المنهجي الذي مارسه الاحتلال بحق البنية التحتية. فمنذ أكتوبر 2023، شهدت بيت حانون أكثر من 10 عمليات عسكرية، بينما تعرض مخيم جباليا لثلاث عمليات كبرى، وكان القاسم المشترك في هذه المعارك هو تأكيد الاحتلال في كل مرة نجاحه في تحييد قدرات المقاومة والقضاء على بنيتها التحتية.
لكن الحقائق الميدانية أثبتت عكس ذلك؛ كلما أُعلن عن "السيطرة العملياتية"، عادت المقاومة بقوة أكبر، ووجهت ضرباتها بصورة أكثر تعقيدًا وفعالية، ما أربك الاحتلال وأفشل طموحاته في خلق نموذج عملي لمنطقة "مطهرة" من المقاومة.
تلك المعارك لم تكن مجرد مواجهات عسكرية تقليدية، بل أصبحت رمزًا لصمود استثنائي أعاد تشكيل قواعد الاشتباك، وأكد أن المقاومة في شمال القطاع، رغم كل التحديات، قادرة على تغيير المعادلات وفرض إرادتها في الميدان.
فشل "المصيدة"
في عمليته الأخيرة على شمال قطاع غزة التي انطلقت في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2024، انتهج جيش الاحتلال أسلوبًا مختلفًا عن عملياته السابقة. على غير العادة، لم يُصدر أوامر إخلاء لسكان المناطق المستهدفة، ولم تُظهر أي إشارات ميدانية واضحة استعدادًا لتنفيذ عملية عسكرية بهذا الحجم، رغم التهديدات المستمرة والتحريض الذي بلغ ذروته مع نشر "خطة الجنرالات" التي أعدها الجنرال الإسرائيلي المتقاعد غيورا أيلاند بالتعاون مع منتدى الجنرالات. إذ دعت الخطة بشكل صريح إلى تنفيذ أوسع عملية تطهير عرقي لشمال قطاع غزة، في خطوة تكشف عن النوايا الحقيقية وراء هذه العملية.
بدأت العملية بهجوم مباغت استهدف المحور الجنوبي لمخيم جباليا، حيث سعى الاحتلال إلى تنفيذ عملية فصل شاملة بين شمال قطاع غزة ومدينة غزة، فيما أصبح يُعرف بمحور "مفلاسيم"، نسبةً إلى الشارع العملياتي الذي شقه جيش الاحتلال في تلك المنطقة موازاة لموقع مفلاسيم العسكري شرق جباليا. كان الهدف من هذا العزل الشامل هو التحكم والسيطرة على حركة الخروج من شمال القطاع، مما يتيح للاحتلال حصر الكوادر القيادية للمقاومة التي قُدر وجودها هناك، إضافة إلى البحث عن أسرى الاحتلال الذين اعتقدت استخباراته أنهم داخل المنطقة.
صممت هذه الخطوة لوضع كوادر المقاومة أمام خيارين صعبين: البقاء شمال القطاع وانتظار مصيرهم في ظل العمليات الموسعة للاحتلال، أو محاولة المغادرة عبر الحواجز العسكرية التي نُصبت بهدف تنفيذ حملة اعتقالات واسعة النطاق.
كثف الاحتلال عملياته الاستخباراتية والأمنية، مستهدفًا تحويل مستشفى كمال عدوان إلى مصيدة للمقاومين. جاءت هذه الخطوة بعد تدمير شامل لأحياء شمال قطاع غزة ومدارسها ومواقع تجمع النازحين، مع استثناء المستشفى من دائرة الاستهداف المباشر، في محاولة لاستدراج كوادر المقاومة للتحصن داخله. في خطوة تعكس تكرارًا لمحاولات الاحتلال إثبات استخدام المستشفيات لأغراض عسكرية، وهي مزاعم فشلت مرارًا على مدار 15 شهرًا من الحرب.
استمرت هذه الخطة لأسابيع، حيث نقل الاحتلال جهوده العسكرية إلى أحياء مشروع بيت لاهيا المحيطة بالمستشفى، محاصرًا إياه بشدة، ثم عمل الاحتلال لاحقًا على إخلاء المستشفى من المرضى والنازحين، تلا ذلك تنفيذ حملة اعتقالات واسعة داخله. ومع ذلك، لم تسفر العملية عن أي نتائج ملموسة، إذ لم يُعثر داخل المستشفى على أي من كوادر المقاومة أو الأسرى المفقودين، رغم الحصار المشدد والتدمير المنهجي الذي استهدف كل حي ومربع في شمال القطاع.
جاءت هذه النتائج لتضيف فشلًا جديدًا إلى سجل الاحتلال، حيث لم تحقق هذه "المصيدة" سوى المزيد من الدمار الشامل للبنية الحضرية والمستشفيات في قطاع غزة، كما كشفت هذه العملية مرة أخرى عن عجز الاحتلال عن فرض سيطرته العملياتية على المقاومة، وأثبتت أن أساليبه الميدانية والاستخباراتية تفتقر إلى الفاعلية في مواجهة صمود المقاومة وإبداعها في التصدي.
عداد الموت: المقاومة الفلسطينية تُغرق الاحتلال في شمال غزة بالدماء
ارتفع عدد قتلى جيش الاحتلال شمال قطاع غزة إلى أكثر من 50 قتيلًا، وفقًا لاعترافات رسمية من الاحتلال، وذلك في ظل معارك ملحمية خاضتها المقاومة الفلسطينية هناك. لقد تجاوزت هذه المعارك كل مشاهد البطولة المعهودة عن أبطال قطاع غزة، إذ عملت المقاومة وفق خطة شاملة تهدف إلى رفع خسائر الاحتلال إلى الحد الأقصى، وتحويل شمال القطاع إلى مقتلة مستمرة لقواته.
ارتكزت عمليات المقاومة في شمال قطاع غزة على مبدأ الاستنزاف المتواصل، حيث نجحت في تحويل كل يوم إلى كابوس دموي لجيش الاحتلال. اعتمدت المقاومة على استراتيجيات نوعية مثل الكمائن المحكمة، وتفخيخ المنازل، واستدراج الجنود إلى مواقع الإصابات المحققة، مما أسهم في ارتفاع عدد القتلى بشكل مستمر.
أثبتت المقاومة قدرتها على تكبيد خسائر نوعية للألوية المشاركة في العمليات العسكرية شمال القطاع، وكان أبرزها مقتل العقيد إحسان دقسة، قائد اللواء 401 المعروف بلواء "المسارات الحديدية" التابع للفرقة 162 في جيش الاحتلال خلال كمين نوعي للمقاومة. كما طالت نيران المقاومة وحدات النخبة المختلفة التي شاركت في العمليات داخل النطاق الجغرافي لشمال قطاع غزة.
الأيام الأخيرة كانت من بين الأكثر دموية على جيش الاحتلال. فقد أكدت منصات إعلامية إسرائيلية مقتل 7 جنود وضباط وإصابة 30 آخرين في المعارك مع المقاومة الفلسطينية، بينهم 11 إصابتهم وُصفت بالخطيرة. وذكرت تقارير عبرية وقوع حدث "صعب جدًا وغير مسبوق" في قطاع غزة من حيث عدد القتلى والجرحى، مشيرة إلى أن 4 من القتلى ينتمون إلى لواء "ناحال"، واثنين من كتيبة "نتساح يهودا" التابعة للواء "كفير"، وقتيل من لواء "جفعاتي".
ووفقًا لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، فإن العملية النوعية التي نفذتها المقاومة استهدفت موكبًا قياديًا كان على رأسه نائب قائد لواء "ناحال". الموكب كان يمر عبر طريق يُفترض أنه آمن بالنسبة لقوات الاحتلال، إلا أن المقاومة كانت لها كلمة أخرى، ونجحت في تحويل الطريق إلى ساحة استهداف محكمة.
هذا التصعيد يعكس فاعلية خطط المقاومة وشراستها، وهو ما أربك حسابات الاحتلال وزاد من فاتورة خسائره البشرية، التي يبدو أنها ستظل في تصاعد ما دام جيشه يواصل عملياته شمال قطاع غزة.
فشل ذريع وتبدد متتالي للأوهام
كشف مراسل القناة 14 العبرية عن فشل ذريع في أسلوب العمليات العسكرية المطولة التي نفذها جيش الاحتلال شمال قطاع غزة، محملًا رئيس أركان الجيش المسؤولية الكاملة عن هذا الإخفاق، كما حمله سابقًا مسؤولية الفشل في منع هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وأشار المراسل إلى أنه رغم مرور أربعة أشهر على بدء العمليات، ورغم الدمار الكبير الذي ألحقه جيش الاحتلال بشمال القطاع، فإن حركة حماس نجحت في إعادة بناء قدراتها، بل ووسعت نطاق إطلاق الصواريخ باتجاه مستوطنات غلاف غزة، مع تزايد عدد القتلى في صفوف الجيش بشكل ملحوظ مع مرور كل أسبوع.
هذا الحديث عن الفشل في أسلوب العمليات العسكرية شمال القطاع يعيد تسليط الضوء على الأهداف الرئيسية التي دفعت الاحتلال لتنفيذ هذه العملية الكبرى. فرغم السعي المعلن لتحويل شمال غزة إلى مصيدة كبرى للمقاومين، فإن المقاومة نجحت في قلب المعادلة، وجعلت جنود الاحتلال أهدافًا يومية لنيرانها الموجعة.
الهدف الرئيسي من هذه العمليات، وفق ما تكشفه التقارير والتحليلات، لم يكن فقط القضاء على البنية التحتية للمقاومة، بل أيضًا توفير نموذج يُمكن للاحتلال البناء عليه كنموذج أولي لمنطقة خالية من المقاومة. هذا النموذج، بحسب خطط قادة الاحتلال، يمثل أرضية لتحقيق أهداف بعيدة المدى، منها تطبيق سيناريوهات "اليوم التالي" التي تسعى إلى تقسيم القطاع إلى "فقاعات إنسانية" معزولة، بالإضافة إلى إحياء طموحات اليمين الصهيوني بإعادة الاستيطان في أراضي شمال غزة.
هذه الطموحات ليست جديدة، إذ تواصل جماعات استيطانية، مثل جماعة "ناحالا"، وضع مخططات تهدف إلى إقامة بؤر استيطانية في شمال قطاع غزة. وبالتالي، فإن تحقيق التحييد الكامل للمقاومة في هذه المناطق يُعد خطوة حاسمة لمنح الحياة لهذه المخططات، خصوصًا بعد مرور أكثر من عام وخمسة أشهر على الحرب دون تحقيق نجاحات استراتيجية بعيدة المدى تخدم أجندة حكومة الاحتلال اليمينية المتطرفة.
من جهة أخرى، فإن طبيعة العمليات العسكرية وحجم خسائر جيش الاحتلال في شمال غزة تعكس عمق البنية التحتية للمقاومة وقوتها في مواجهة الاحتلال. كما تؤكد هذه المعارك دقة القراءة الاستراتيجية لقيادة المقاومة لأهداف الاحتلال من كل عملية عسكرية، وقدرتها على بناء السيناريوهات الدفاعية التي تُفشل مخططاته.
لقد حملت العملية العسكرية شمال القطاع عامل حسم مهم لمستقبل الحرب، ونجحت المقاومة في إيصال رسائل واضحة لقادة الاحتلال حول مصير خططهم، سواء تلك المرتبطة بفرض الحكم العسكري على القطاع، أو تنفيذ سيناريو "اليوم التالي" الذي يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من خلاله إلى إعادة تشكيل البنية الجغرافية والديموغرافية لقطاع غزة، بهدف تحييده عن مشهد المواجهة لعقود قادمة.